هل أنت ضليع في مادة الرياضيات؟ إذا كانت الإجابة بنعم فأنت ذكي، وإذا كانت إجابتك بلا فأنت أيضا ذكي، نعم ذكي لكن بنوع خاص.
لقد كانت الرياضيات في وقت مضى معيارا لقياس الذكاء، كلنا يتذكر اختبارات الذكاء ال (QI)، وهي اختبارات سيكومترية اعتمدت منذ سنة 1912 لقياس ذكاء الشخص أو قدراته العقلية إنطلاقا من مؤشرات إحصائية مختلفة لنتيجة هذا الاختبار، وذلك بغية توجيهه دراسيا بشكل مناسب بأقل نسبة خطأ ممكنة، كل من اجتاز إحدى هذه الإختبارات لابد وأنه لاحظ كيف أنها تعتمد بشكل كبير على حل مجموعة من المسائل الرياضية، أو على معارف لغوية أحيانا، وكل من كان متميزيا في مادة الرياضيات، خاصة المسائل المتعلقة بالمتسلسلات والمتتاليات العددية لابد وأنه قد حصل معدلا جيدا، أي أكبر من 70% لكن ما مدى مصداقية هذه الاختبارات؟ وهل يمكن اعتمادها في “قياس” مستوى ذكاء الشخص؟
لنتفق أولا على مفهوم الذكاء، لن نخوض في معمعة تحديد تعريف للذكاء لكن سنكتفي بتوحيد وجهة نظرنا حول مفهوم المصطلح، فماذا نقصد بالذكاء إذن؟ ما الذي يجول في ذهنك عند سماع كلمة “ذكاء”؟ كيف تحكم على شخص ما من محيطك بأنه شخص ذكي؟ هل الآلة الحاسبة إن قامت باجراء حسابات معقدة في وقت وجيز فهي ذكية، أم هي غبية لأنها عجزت عن إنجاز بعض المهام البسيطة التي يقوم بها الإنسان؟ هل انطلاقا من معدل الذكاء تجزم أن شخصا ذكيا، أم من مستوى تحصيله التعليمي؟ أم لقدرته على التعامل مع وضعيات من الحياة اليومية والتي لا تستطيع عادة التعامل معها؟ أم انطلاقا من قدرته على الإجابة على أسئلة وحل مسائل ربما قد تعجز أنت عن حلها؟ هل للذكاء معيار عالمي؟ أو بصيغة أخرى هل نفس المعايير التي تتحكم في تحديد ما إذا كان شخص ما ذكيا في محيطك، هي نفسها في آسيا أو جنوب أفريقيا؟ إذن فالذكاء رهين بالوسط أي أنه مرتبط بالحقبة والمجتمع، والتاريخ يشهد كم من عباقرة أمثال “أفرست غالوا” و”جورج كيفيير”، لم يتم الاعتراف بهم وبأعمالهم إلا بعد مرور سنوات على موتهم، وكم من حضارات اعتبرت الأبكم أو الأعمى غبيا، وهناك العديد من الأمثلة حيث اعتبر غير البارع في شيء يتقنه الجميع غبيا… وهكذا بقي مفهوم الذكاء مرتبطا بأحكام عرفية واجتماعية إلى غاية نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين حيث بدأ الانسان في السعي وراء قياس الذكاء، وظهور مصطلح الاختبار الذهني لأول مرة مع كاطيل (CATTELL) سنة 1890 بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم مع ألفرد بيني (Alfred BINET) و ثيودور سايمون (Théodore SIMON) سنة 1905 بفرنسا وصولا إلى رينيه زازو (René ZAZZO) سنة 1966. وقد اعتبر علماء النفس هذه الاختبارات دقيقية نظرا لكون علم الطب النفسي لا يعتمد على طرق سريرية في التوصل إلى استنتاجات ، وحذا حذوهم “الديداكتيكيون” و المربون وأرباب المؤسسات التعليمية في أنحاء العالم حيث كان التيار “الأمبيري”، الذي يرى أن المعرفة تكتسب عن طريق الملاحظة، هو السائد آنذاك.
لكن تغير هذا التوجه منذ أن أخذت هذه المؤسسات تميل نحو التوجه البنائي شيئا فشيئا، وهو فرع يؤمن بأن المعرفة تكتسب عن طريق التجربة والانطلاق من المجرد للتوصل إلى الملموس.
بدأ هذا النوع من الاختبار بفقد مصداقيته، إذ كيف يمكن أن نحدد مستوى ذكاء شخص ما مادام لم يوظف “ذكاءه” في تجربة؟ ثم نتجت عدة نظريات حاولت التوصل إلى مفهوم أدق حول الذكاء وكيفية قياسه إن كان قابلا للقياس تحت ظل هذا التوجه الجديد، إن مفهوم الذكاء ليس بفكرة جديدة بل كان موجودا في كل حقبة من حقب التاريخ، لكن الجديد هو فكرة قياس الذكاء؟ فإذا نظرنا إلى مفهوم الذكاء بمفهومه الأول الكلاسيكي سنجد أنه ينظر إليه كأنه شيء فطري، موهبة تولد مع الإنسان وتموت معه ولا يتغير بتقدم السن أو بتغير الوسط المعاش، سواء اكتسبنا معارف جديدة أو خضنا تجاربة متنوعة، وهذا مفهوم خاطئ، وهو الشيء الذي دفع مجموعة من الباحثين في الميدان إلى التحقق من ذلك ومنهم علماء الأعصاب الذين بحثوا في قدرة الدماغ على تكوين روابط عصبية جديدة كلما تغيرت هذه المتغيرات (وسط – تجارب – سن)،
تعددت النظريات والأبحاث التي نظرت إلى الذكاء كوليد للتجربة والتفاعل بين الفرد والمحيط، من بين هذه النظريات تولدت نظرية الذكاءات المتعددة لعالم النفس وأستاذ الإدراك والتعليم الأمريكي هوارد كاردنر(Howard Gardner) والذي نظر إلى الذكاء كمفهوم مركب ومرتبط بمفاهيم بيولوجية وكميائية وفلسفية ونفسية ويمكن إعادة تعريف المفهوم كلما نظرنا إليه من زاوية مختلفة، ولهذا من الصعب تحديد مفهوم شامل وواضح لمفهوم الذكاء ولكن يمكننا تصنيفه كالآتي: فكاردنر يرى أن الذكاء قدرة حيوية نفسية أي قدرة على إنجاز مهام ذهنية تخص الفصيل المعني، وبالتالي كاردنر يرى أنه لايوجد ذكاء واحد بل عدة ذكاءات، حيث يولد الإنسان بمجموعة من الذكاءات في مستوى معين، ثم تتطور حسب متغيرات السن والوسط والتجارب، وقد تبرز بعض هذه الذكائات في سن متقدمة ثم تستمر أو تختفي، بينما أخرى لا تظهر إلا في مرحلة عمرية معينة بعد نضجها التام، وحسب نوع الذكاء الذي يستمر في التقدم والتطور تتميز شخصية المرء في المجتمع، يصنف “هاورد” الذكاء إلى عدة أصناف أهمها : الذكاء اللغوي، والذكاء المنطقي والرياضي، والذكاء الموسيقي، والذكاء المرئي والفضائي، والذكاء الحركي، والذكاء الطبيعي، والذكاء الاجتماعي، والذكاء العاطفي. إذن إذا اجتزت إحدى اختبارات الذكاء (QI) بمعدل جيد فمن المرجح أنك من أصحاب الذكاء المنطقي والرياضي أو الذكاء الغوي، لكن إن لم يكن معدلك جيدا فلا تحزن فأنت بلا شك ذكي لكن في مجالاتك الخاصة، صدق ألبرت أينشتاين حينما قال: “كل الناس عباقرة، لكن إن حكمت على قدرة سمكة في تسلق شجرة، لعاشت طيلة حياتها تعتقد أنها غبية.”
الكاتب:
المدقق اللغوي: