image_pdfimage_print

نرحب بكم في هذه السلسلة الجديدة بعنوان ”مفاهيم “علمية” مغلوطة واسعة الانتشار!”، والتي أعدها البروفيسور مصطفى بهران  المتخصص في علم الفيزياء النووية والجسيمية، والحاصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية.

الحلقة الثانية :مضادات الأكسدة جيدة والشقوق الحرة سيئة! (بتصرف)

ماهي الشقوق الحرة (الجذور)؟:

هي جزيئات (غالباً ما تكون شديدة التفاعل قصيرة العمر) لها إلكترونات تكافؤ فردية في المستوى الخارجي للذرة. أي أنها تسعى بقوة لمهاجمة أقرب جزيء إليها للإستيلاء على أحد إلكتروناته أو المشاركة معه حتى تستكمل تركيبها الإلكتروني المستقر، وأهم هذه الجزيئات هو جزيء O2 السالب، وهو يتفاعل بقوة مؤكسداً ما يتفاعل معه ويسمى التفاعل بطبيعة الحال أكسدة، ومن هنا نشأت نظرية مضادات الأكسدة التي تسعى ضد فعل الأكسدة هذا!

Illustration by Ryan Snook

Illustration by Ryan Snook

شرح الموضوع؛

في العام 1945 اقترحت زوجة الكيميائي دنهام هارمان هلى زوجها أن يقرأ مقالاً بعنون “غداً ربما تكونين أصغر سناً” في مجلة “بيت السيدات” أو “ليديز هوم”، وأثار المقال لدية اهتماماً بموضوع الشيخوخة، وباعتباره باحثاً في جامعة كالفورنيا في بيركلي جاءت له فكرة مفادها أن سبب الشيخوخة هو الشقوق الحرة، التي تتزايد في الجسم نتيجة للعمليات الحيوية فيه مؤدية إلى الإضرار بخلايا الجسم وبالتالي شيخوخته!

أُعجب المجتمع العلمي من حول هرمان بهذه النظرية حول سبب الشيخوخة، خاصة جزئية أن مضادات الأكسدة جيدة لجسم الإنسان لأنها تعادل جزيئات الشقوق الحرة فتجعلها غير ضارة (تُحيدها)! ومع حلول الستينات بدأ الناس تناول أقراص مضادة للأكسدة خاصة فيتامين سي وبيتا كاروتين!

يقول سيجفريد هِكيمي من جامعة مكغيل الكندية في مدينة مونتريال بأن نظرية مضادات الأكسدة هذه هي “واحدةً من النظريات العلمية التي وصلت لعامة الناس: الجاذبية، والنسبية، والشقوق الحرة التي تسبب الشيخوخة مما يعني ضرورة تناول مضادات الأكسدة”

مع حلول العام 2000 حاول العلماء البناء على هذه النظرية ولكنهم واجهوا نتائج عجيبة، فقد هندسوا وراثياً فئرانا تنتج أجسامها كميات فوق العادة من الشقوق الحرة وأخرى تنتج أجسادها كميات فوق العادة من مضادات الأكسدة، فوجدوا أن الأولى التي بها كميات فوق العادة من الشقوق الحرة عاشت بشكل طبيعي وعمرت مثلها مثل الفئران العادية (لم تُنقص الشقوق الحرة من أعمارها)، والثانية التي بها كميات فوق العادة من مضادات الأكسدة لم تعمر أكثر من الفئران العادية، أي الأولى لم يَقصُر عمرها ولا الثانية طال عمرها (في المتوسط)! كانت هذه أول نتيجة مضادة للنظرية العتيدة، ولأنها كذلك وجد أصحاب هذه النتيجة صعوبة في قبول بياناتهم ونتائجها للنشر في المجلات العلمية (يُبين هذا مدى سيطرة أسطورة النظرية العتيدة حتى على القائمين على مؤسسات علمية أساسية كالمجلات العلمية)، إذ يقول ديفٍِز جيمز من كلية لندن الجامعية بأن نظرية الشقوق الحره كانت “كأنها مخلوق ما كنا بصدد محاولة قتله، فاستمرينا في إطلاق النار عليه ومع هذا لم يمت”، ولأن الحقيقة في العلوم تجد طريقها في نهاية المطاف بالرغم من وجود معارضة قوية، ومع حلول العام 2003 نشر جيمز أول ورقة علمية له ضد النظرية العتيدة وكان النشر في المجلة ذات العلاقة، أي على وجه التحديد في مجلة “بيولوجيا وطب الشقوق الحرة”، وفي 2009 ظهرت في منشورات الأكاديمية الوطنية للعلوم (الأمريكية) دراسة على البشر بنتيجة مفادها أن مضادات الأكسدة التي يتناولها الناس على شكل أقراص (مكملات الغذاء) تمنع التأثيرات الصحية الإيجابية لممارسة الرياضة (الصور الثالثة والرابعة والخامسة)، وأخرى في مجلة العلوم الطبية الأمريكية تربط بين مضادات الأكسدة وزيادة معدلات الوفيات (الصور السادسة والسابعة)! ومع هذا لم تؤثر أيٍ من هذه النتائج على نمو السوق العالمية لمضادات الأكسدة، ابتداء من المأكولات والمشروبات وانتهاء بما يعطى من إضافات غذائية لقطعان المنتجات الحيوانية، فمن المتوقع في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها أن تنمو هذه السوق من 1.2 مليار دولار في 2013 إلى 3.1 مليار دولار في 2020، ولهذا يعتقد جيمز أن وراء عدم سقوط هذه النظرية العتيدة أولئك الذين يجنون من ورائها ارباحاً عظيمة!

المحصلة حالياً هي أن غالبية العلماء العاملين في هذا المجال يتفقون على أن الشقوق الحرة يمكن أن تحدث ضرراً على الخلية ولكن هذا يبدوا أنه جزء طبيعي في كيفية تعامل جسم الإنسان مع الإجهاد، والسؤال المطروح هنا هو: كم من الوقت والإمكانيات أُهدرت في هذا الشأن، ومازالت النظرية العتيدة وإيمان الناس بها قائماً، ربما بسبب حبهم الشديد لوقف الشيخوخة حتى لو كان ذلك وهماً وأسطورة، وربما بسبب رأس المال الضخم القائم عليها، مازالت النظرية ذات سيطرة إلى درجة أنها تُوقف النشر لأعمال بحثية رصينة تؤكد بأن هناك فوائد صحية للشقوق الحرة وليس فقط أنها لا تضر بالضرورة، يقول مايكل ريستو وهو من علماء مجال “حيوية الإنسان” في المعهد الفيدرالي للتكنولوجيا بمدينة زيورخ السويسرية “يوجد كم كبير من الأدلة الجوهرية التي تؤيد فكرة أن الشقوق الحرة مفيدة، ولكنها في الأدراج والأقراص الثابتة للحاسوبات، ولم يخرجها أصحابها”، أي أن المشكلة ما زالت قائمة!

بعض الباحثين بدأوا حتى في التشكيك في صحة المفهوم الذي مفاده أن التخريب الجزيئي هو المسؤول عن الشيخوخة! والمشكلة الأكبر هي أن هناك ضبابية في الرؤية لدى المختصين حول الإجابة على السؤال : أين نتجه إذن، في البحث عن الشيخوخة وكيفية عرقلتها؟

المحصلة:

بُنيت النظرية العتيدة التي تعتقد بأن الشقوق الحرة هي المسؤولة عن الشيخوخة وبالتالي لابد من تناول مضادات الأكسدة سواء في الطعام أو عبر مكملاته التي تباع في الصيدليات، بُنيت على حاجة بشرية أساسها الرغبة في إيقاف عقارب الساعة بيولوجياً، ثم وجدت في صناعة مضادات الأكسدة خير داعم وحارس لها، وها هي النظرية العتيدة عنيدة رغم وجود أدلة علمية رصينة بعكسها!

ما العمل إذن؟

ما هو ثابت هو أن ما هو طبيعي صحيح، بمعنى أن ما نأكل ونشرب من الطبيعة بدون تدخل ومعالجة صحيح، وعلى ذلك يجب أن نرحب بالطعام والشراب مما يحتوي على مضادات أكسدة مع الذي لا يحتوي على مضادات أكسدة على حد سواء، فإذا كانت النظرية العتيدة مازالت معشعشة في عقول البعض فلا بأس من إكثار الأطعمة التي يريدونها شريطة أن تكون طبيعية، ولكن لا معنى بل من غير المفيد تناول مكملات غذائية تُشترى من الصيدليات تحت مبرر مضادات الأكسدة، والمبدأ الصحيح هو لا حاجة لنا بالمكملات إذا تناولنا طعاما طبيعيا كاملاً ومتوازناً، أما فيما يتعلق بالسؤال الذي فحواه هل الشقوق الحرة مفيدة، نترك الإجابة عليه حتى تتضح الرؤية لدى المختصين قبل أن تتضح لدينا، ولكن على كل حال يجب أن لا نساهم بمزيد من الدعم المالي وزيادة الأرباح للشركات الكبرى التي تكسب من وراء النظرية العتيدة!

تناولي لهذا الموضوع جاء فقط من بابٍ علميٍ معرفيٍ معنيٍ بالمستقبل، والمستقبل آت لا محالة.

نسأل الله العلي القدير مستقبل أفضل للأجيال القادمة، طيب الله أوقاتكن وأوقاتكم أجمعين.

المقال الأصلي على مجلة نايتشر : آساطيرُ علومٍ تأبى الموت!، نايشتر 2015

 


الكاتب: مساهمة خارجية