بنيت نظرية التطور أثناء ظهورها على دعامتين أساسيتين، الأولى هي قدرة الانتقاء الطبيعي على إحداث تغيرات تطورية، أما الثانية فيقدمها السجل الأحفوري. الآن، ومع التقدم الذي حصل في مختلف مجالات علوم الأحياء فقد ظهرت براهين أخرى وفرها علم الأجنة والوراثة الجزيئية على سبيل المثال، وفي هذا المقال، ومقالات أخرى قادمة سنطلعكم على الدلائل التي بنيت عليها نظرية التطور، والبداية مع الدليل الاستحاثي.
© Pascal Geoetgheluck/Science Photo Library/Scanpix
يعد السجل الأحفوري أحسن دليل على إثبات حدوث التطور، ونتوفر اليوم على فهم أفضل وأكثر اكتمالا لهذا السجل مما كان عليه الحال في حياة داروين. فالمستحاثات (fossils) عبارة عن بقايا محفوظة للكائنات الحية، وتتشكل نتيجة ثلاثة أحداث: ففي البداية على الكائن الحي أن يطمر تحت الرواسب، ثم يتمعدن بعد ذلك الكالسيوم الموجود في العظام والأنسجة الصلبة الأخرى، وأخيرا لابد من تصلب الرواسب المحيطة بالكائن الحي لتصير صخرة.
تعتبر عملية تكون المستحاثات نادرة الحدوث، ففي غالب الأحيان تتحلل بقايا الحيوان أو النبات أو تقتات عليها كائنات أخرى قبل بدء العملية، كما أن الكثير من المستحاثات توجد في طبقات صخرية بعيدة عن متناول الباحثين، وعندما تصبح متاحة لهم فإنها غالبا ما تتعرض للتدمير بسبب الحث وظواهر طبيعية أخرى قبل أن يتم جمعها، ونيتجة لذلك فإن نسبة الأنواع التي تم التعرف عليها من خلال مستحاثاتها قليلة جدا إذا ما قورنت بعدد الأنواع التي عاشت على سطح الأرض، والتي تقدر بحوالي 500 مليون نوع، رغم ذلك فالمستحاثات المكتشفة توفر معلومات كافية عن التطور عبر الزمن.
تحديد عمر المستحاثات: التأريخ
يمكن تحديد عمر المستحاثات بشكل دقيق اعتمادا على تأريخ الصخور التي وجدت بها. في أيام داروين يحدد عمر الصخور بناء على تموضع بعضها بالنسبة لبعض (التأريخ النسبي)، حيث تكون الصخور في الطبقات السفلى أقدم، وبمعرفة التموضع النسبي للصخور الرسوبية ومعدل حث مختلف أنواع هذه الصخور في مختلف البيئات، تمَكن علماء الجيولوجيا في القرن التاسع عشر من تكوين فكرة دقيقة إلى حد ما عن العمر النسبي للصخور.
حاليا، يعتمد التأريخ على قياس مدى تفتت بعض النظائر الإشعاعية الموجودة في الصخور. وبما أن هذه النظائر تتفتت بنفس المعدل كيفما كانت درجة الحرارة والضغط، فإنها تلعب دور ساعة داخلية تقوم بحساب الوقت منذ تكون الصخرة التي تحتويها، هذه طريقة دقيقة لتحديد عمر الصخور، حيث تعطي أعمار المستحاثات بملايين السنين عوض تأريخ نسبي فقط. في حالة المستحاثات التي يكون عمرها أصغر من 50.000 سنة يتم استعمال الكربون المشع 14 من أجل تحديد لحظة تكونها، في حين يتم استعمال نويدات مشعة أخرى للمستحاثات الأكبر عمرا، حيث يتم اللجوء غالبا إلى سلسلة البوتاسيوم و الأرغون و غيرها من السلاسل المشعة.
تاريخ من التغيرات التطورية:
عندما ترتب المستحاثات حسب عمرها، من الأقدم إلى الأحدث، فإنها تعطي دليلا على حدوث تغير تطوري تدريجي. يُظهر هذا السجل الأحفوري تقدما لأشكال الحياة مع مرور الزمن، من أصل الكائنات ذوات النوى الحقيقية (eukaryotic organisms)، عبر تطور الأسماك، مرورا بظهور الكائنات البرية، وصولا إلى عصر الديناصورات وانتهاء بأصل البشر.
فجوات في السجل الأحفوري:
ما ذكرناه سابقا لا يعني أن السجل الأحفوري مكتمل تماما، فبسبب ضعف احتمال حفظ المستحاثات ليس غريبا أن نجد فجوات في هذا السجل، رغم ذلك فإن علماء الحفريات مستمرون في ملء هذه الفراغات، فإذا كان هذا السجل قد عانى من الفجوات خلال حقبة داروين فإنه حاليا أكثر اكتمالا بكثير خصوصا عند الفقريات، حيث ثم العثور على مستحاثات تربط بين جميع المجموعات الكبرى لهذه الحيوانات.
عرفت السنوات الأخيرة اكتشافات مذهلة أسهمت في سد الفراغ الحاصل في فهمنا لتطور الفقريات، فعلى سبيل المثال مكن اكتشاف حديث لحيوان ثديي بحري رباعي الأطراف من تسليط الضوء على تطور الحيثان والدلافين انطلاقا من أسلاف برية ذات أربع قوائم. على نحو مماثل اكتشفت مستحاثة ثعبان يملك أطرافا مكنت من القاء الضوء على تطور الثعابين التي انحدرت من السحالي، هذه الأخيرة أصبحت أجسامها مع مرور الوقت طولية أكثر وتضآلت ثم اختفت أطرافها. بالمقابل، فالتغيرات التطورية على مستوى بعض أصناف الحيوانات معروفة بالتفصيل، على سبيل المثال، عرف المحار قبل 200 مليون سنة تغيرا من أصداف صغيرة مقوسة إلى أخرى كبيرة مسطحة، حيث استمر هذا التغير 12 مليون سنة (الصورة)، ويمكن ملاحظة هذا النمط من التغيرات التدريجية عند عدد كبير من الكائنات الأخرى، وهو ما يعتبر دليلا قاطعا على حدوث التطور.
المصدر: mhhe.com
الكاتب:
المدقق اللغوي: