الميكانيك الكمية فرع من فروع الفيزياء، يصف الكيفية التي تتصرف وفقها الأجسام الميكروسكوبية : الجزيئات، الذرات،…
تعتبر الميكانيك الكمية إحدى دعامات العلوم المعاصرة، بيد أنها تعتبر أيضا، وعلى الأغلب، أغرب نظرية مبتكرة على الإطلاق، إلى درجة أن أحد روادها “نيل بوهر” يقول: ” إن لم تتزعزع بفكرة الميكانيك الكمية، فهذا لأنك لم تفهم شيئا”. بالفعل، إن ميكانيكا الكم مليئة بالغموض و بالمفاجآت و المتناقضات التي تجبرنا على إعادة النظر في الطريقة التي ندرك بها المادة، وكذلك الفيزياء عموما.
قبل القرن العشرين ظن العلماء أن الفيزياء قد بلغت أوجها و لم يعد فيها ما يُكتشف، فقد تم التوصل إلى وصف دقيق لحركية الأجسام و الكواكب عن طريق ميكانيك نيوتن سنة 1687 و طبيعة الضوء والموجات الكهرومغناطيسية من طرف “ماكسويل” سنة 1865، إضافة إلى قوانين البصريات، والقوانين الحرارية سنة 1850. لكن مع ظهور مجموعة من الظواهر الفيزيائية الجديدة أبانت الميكانيك الكلاسيكية أو ميكانيك نيوتن عن عجزها التام في تفسيرها.
بدأ مفهوم الميكانيك الكمية يتبلور في عهد الفيزيائي الألماني “ماكس بلانك” عندما توصل في سنة 1900 إلى ما يسمى بنظرية الكم، والتي تطورت بعد ذلك، أساسا من قبل “ألبرت إنشتاين” و “نيل بوهر” و “هايزنبرغ” و “شرودنغر” و آخرين، ما بين سنتي 1905 و 1924.
تعتبر نظرية الكم نتاجا لتجربة تسمى “تجربة الجسم الأسود”، التي قام بها “ماكس بلانك” و ذلك عن طريق تسخين جسم أسود مجوف. لاحظ أثناء القيام بهذه العملية انبعاث إشعاعات ضوئية (موجات كهرومغناطيسية) من الجسم، افترض أنها نتيجة حركية إلكترونات ذرات الجسم الأسود. لكن بلانك وجد أن المنحنى الطاقي للموجات ليس متصلا. و عزا ذلك إلى كون إلكترونات الذرات لا تحتل سوى مستويات طاقية معينة و ليس كلها. الشيء الذي لم تستطع الميكانيك الكلاسيكية تفسيره. إذ إنها تفترض في الأصل أن الإلكترونات شبيهة بالأقمار الاصطناعية التي يمكننا أن نتحكم في مسار دورانها حول كوكب ما و ذلك حسب الطاقة البدئية التي نمنحها لها، الشيء الذي يعتبر مستحيلا بالنسبة للإلكترونات، إذ إنها تحتل مواضع طاقية معينة، و هو ما يسمى بـ “كمومية الطاقة”، المفهوم الذي ظهر في سنة 1905، حين قام “ألبرت انشتاين” بتقديم أبحاثه حول الظاهرة الكهروضوئية (Photo-électrique).لكن قبل أن نتحدث عن التفسيرات العلمية التي قدمها انشتاين عن هذه الظاهرة، لنتعرف أولا عن ماهيتها. الظاهرة الكهروضوئية أو المفعول الكهروضوئي، هو تحرير الإلكترونات من طرف مادة ما، وعادة ما تكون معدنية، عندما يُسلط عليها شعاع كهرومغنطيسي أو شعاع ضوئي ذو تردد عالٍ، وذلك حسب كل مادة. ويكون انبعاث الإلكترونات نتيجة امتصاصها لطاقة الضوء. لاحظ العلماء أن الإلكترونات تتحرر فقط إذا كان تردد الضوء عاليا بما فيه الكفاية، و يتجاوز قيمة محددة تسمى العتبة. هذه القيمة القصوى للتردد (العتبة) تختلف من معدن إلى آخر، و ترتبط مباشرة بطاقة الربط للإلكترونات الحرة.
هذه الظاهرة لا يمكن أن تفسر بكون الضوء موجة، و هو الاعتقاد الذي كان سائدا حينها حول طبيعة الضوء، إذ إن هذا التفسير يعتبر غير كافٍ، حسب ما أكدته التجربة. فإذا ما اعتبرنا الضوء موجة، ونزيد من كثافته نكون قد منحنا الإلكترونات طاقة كافية لكي تتحرر. لكن التجربة تؤكد أيضا أن كثافة الضوء ليست العامل الوحيد لانبعات الإلكترونات، كما أن انتقال الطاقة بين الضوء و الإلكترونات لا يتم إلا عند تردد معين. الشيء الذي سبب حيرة للعلماء.
أما تفسير انشتاين فقد كان كالآتي:
امتصاص فوتون واحد يمكن تماما من تفسير جميع خاصيات هذه الظاهرة(حسب تقدير اينشتاين دائما). تمتلك فوتونات المصدر الضوئي طاقة مميزة محددة بتردد الضوء. فعندما يمتص إلكترون واحد فوتونا واحدا، بحيث تكون طاقة هذا الأخير كافية، فإن الإلكترون يتحرر. أما إذا كانت طاقة الفوتون غير كافية لتحرير الإلكترون فإنه لا يغادر المادة. أما الكثافة فهي مرتبطة فقط بعدد الفوتونات لا بطاقاتها. و منه فإن طاقة الإلكترونات المحررة لا ترتبط بكثافة المصدر الضوئي. و لكن يجب الإشارة إلى أن “إنشتاين” استعمل النتائج و العلاقات الرياضية التي توصل إليها “ماكس بلانك” في نظرية الكم.
إذًا، وبهذا التفسير الذي قدمه “إنشتاين”، أي أنه افترض أن الضوء هو عبارة عن حبيبات طاقية تسمى فوتونات، مكنه من الظفر بجائزة نوبل في الفيزياء سنة 1921.
تأتي تجربة “يونغ” بعد ذلك لتعطي مفهوما جديدا للضوء، فقد و جد من خلال تجربته أن طبيعة الضوء مُزدوجة فهو عبارة عن جسيمات وفي نفس الوقت هو عبارة عن موجة و هذا ما يسمى بازدواجية الموجه-الجسيم. ظهر هذا الاسم عندما قام “يونغ” بتسليط شعاع ضوئي على فتحة واحدة صغيرة نسبيا، فلاحظ أن الصورة المكونة على الشاشة عبارة عن خط متصل كما كان متوقعا، وهذا يؤكد الطبيعة الجسمانية للضوء(فوتونات). أما عندما يُمرر الضوء من فتحتين فإننا لا نحصل على خطين ضوئيين كما في السابق، بل نحصل على خطوط ضوئية و مظلمة متناوبة. هذه الظاهرة تسمى بظاهرة “الحيود الضوئي”، و هي التي تبين أن للضوء خاصية مَوْجِيَّة.
و الجدير بالذكر أنه عند استعمال الإلكترونات بدل الضوء، يتم الحصول على نفس النتيجة، أي عند استعمال فتحة واحدة تمرر منها الإلكترونات بسرعة عالية نحصل على خط مستقيمي على الشاشة. أما عند استعمال فتحتين يتم الحصول على خطوط مستقيمة بينها فراغات عوضا عن خطين فقط. افترض العلماء أن جزءا من الإلكترون يمر في إحدى الفتحتين و الجزء الآخر يمر في الفتحة الأخرى. أراد العلماء التأكد من هذه المسألة و التعرف عن قرب على الكيفية التي يتصرف وفقها الإلكترون في هذه الحالة، و لذلك وضعوا جهازا يمكنهم من الكشف عن الفتحة التي يمر منها الإلكترون أو ما إذا كان يمر في الفتحتين معا. لكن هذا الجسم الميكروسكوبي أذكى بقليل، إذ إنه عاد ليتصرف كجسم عادٍ، و تم الحصول على خطين مستقيمين على الشاشة عندما تم تسليط الإلكترونات على الفتحتين، كما كان متوقعا في السابق، لكن هذه المرة بوجود الجهاز المراقب. أما عندما تتم إزالته فإن الإلكترونات تعود إلى حالتها السابقة (عند عدم وجود أي جهاز مراقب). يفسر العلماء هذه النتيجة بكون وجود أي جهاز مراقب يشوش على نظام الإلكترونات.
ربما لم نلمس بعد جوهر ميكانيكا الكم، و لم نحس بعد بغرابتها، لكن هذا ما سيحدث بعد قليل. لِنَرَ الآن بعض الفروقات بين الميكانيك الكمية و الميكانيك الكلاسيكية:
عندما نقوم عادة بدراسة حركة جسم، مثلا : كرية حديدية، فإننا نعتمد على مقادير معرفة : سرعتها، موضعها، سرعة دورانها أو طاقتها. لا نعرف بالضرورة كيفية قياس هذه المقادير الفيزيائية بدقة، لكننا نعرف أنها موجودة ولها قيم محددة. في لحظة معينة تتواجد الكرية الحديدية في موضع معين. هذا ما يسمى بالميكانيك الكلاسيكية أو ميكانيك نيوتن (العلم الذي يدرس حركية الأجسام الماكروسكوبية). أما في ميكانيكا الكم، فلا نتحدث عن موضع محدد، بل نتحدث عن احتمالية وجود ذلك الجسم الميكروسكوبي في مكان معين. تنضاف إلى هذه الخاصية الغريبة خاصية أغرب، وهي كالتالي: كلما زادت نسبة معرفتك لموضع الجسيم، كلما غابت فرصة معرفتك لسرعته. وبشكل مختصر، لا يمكنك أبدا أن تعرف موضع الجسيم و سرعته في آن واحد. فالميكانيك الكمية مبنية على الاحتمالات.
الميكانيك الكلاسيكية لا تزال صالحة، بل إنها قدمت تفسيرات لحركية الكواكب و الأجسام كبيرة الحجم، وساهمت في التقدم التكنولوجي في هذا المجال. كما أن الميكانيك الكمية، بل و بغرابتها هاته، استطاعت هي الأخرى تقديم خاصيات جديدة أحدثت ثورة في الفيزياء الحديثة. و صحيح أن “إينشتاين” ساهم إلى جانب علماء آخرين في تطوير الميكانيك الكمية، إلا أنه مات و لم يؤمن بها لأنه كان يرفض أن يكون العالم مسيًّرا بقاعدة الاحتمالية. و كان معروفا بقولته الشهيرة: “إن الله لا يلعب بالنرد”.
إعداد: أسماء بن قدور
مراجعة: علي توعدي
المصادر:
الكاتب: