لطالما سمعنا ترديد الجملة الشهيرة “التطور مجرد نظرية إذن فهي مجرد آراء دون أي أسس علمية أو صلاحيات تطبيقية”. ان مصطلح النظرية العلمية لا يعني أنها رأي خاص بفئة معينة، أو أنها مجرد أقوال بدون دعامة علمية. لنتعرف على مفهوم النظرية من الناحية العلمية، و لنكتشف سويا ما الذي يجعل نظرية “داروين” تندرج في خانة النظريات العلمية؟ ما خلفيات الصراع حول هذه النظرية، هل هو مرآة لصراع أيديولوجي في الساحة العلمية؟ أم أن النظرية حقا تعاني خطبا ما؟ هل يتحقق مبدأ القابلية للتكذيب ل”كارل بوبر” في حالة نظرية التطور؟ و ما الأدلة التي تدافع بها النظرية عن نفسها؟
إن هذه المغالطة ترجع إلى الخلط بين المفهوم اليومي المتداول و المفهوم العلمي لكلمة “النظرية”. حيث يختلف مفهوم كلمة ” النظرية ” بين المنظور اللغوي و المنظور العلمي. فإذا كانت “النظرية” في التداول اليومي تعني فكرة بدون أي سند تجريبي أو عقلاني، وغالبا ما يتم استعمال مصطلح النظرية بمعنى الفرضية في التداول الشائع. فالنظرية العلمية من المنظور العلمي مختلفة تماما عن هذا المفهوم. إنها تعني مجموعة من التفسيرات لظواهر طبيعية والتي تتميز بكونها متجانسة وقابلة للتطبيق والاختبار، إن النظرية بناء عقلي منظم. يعرفها “ستيفن هاوكينج “عالم الفيزياء الفلكية النظرية، باعتبارها نموذجا للعالم أو جزءا محدودا منه مع مجموعة القواعد التي تربط الكميات في النموذج مع مشاهداتنا. ويرى “كارل بوبر”، فيلسوف العقلية العلمية أن المعيار الوحيد و الأوحد لاعتبار نظرية ما نظرية علمية، هو قابلتيها للتكذيب، قابليتها للتفنيد. على النظرية العلمية أن تكون قادرة على تقديم الاحتمالات الممكنة التي يمكن بها أن تفند. وبتحقق هذا الشرط تكون النظرية قابلة للاختبار و النقد و التفنيد. على عكس النظريات المزيفة الغير علمية التي تدعي أنها يقينية ومطلقة دون أية ثغرات، إنها نظريات مزيفة غير قابلة للاختبار.
فما محل نظرية داروين من كل هذا؟؟ قبل الحديث عن نظرية التطور ل”داروين” لنتحدث قليلا عن نظرية الجاذبية ل”نيوتن“، بهدف رصد جوانب التشابه بين النظريتين. فنظرية الجاذبية لنيوتن مدعومة بترسانة من الأدلة العلمية و العديد من التفسيرات التي جعلتها نظرية علمية مقبولة في الأوساط العلمية. النظرية تنبأت بمدارات الكواكب و النجوم و سرعة سقوط الأجسام بدقة متناهية، باستثناء المدار الغريب و الاستثنائي لكوكب عطارد، فالنظرية لم تستطع تقديم تفسير لهذا المدار. انتظر المجتمع العلمي مجيء “البرت إينشناين” ليقدم تفسيرا لهذا المدار في إطار مفهومه للجاذبية. وهذا لايعني أن نظرية نيوتن متجاوزة، بل فقط لا تمثل الحالة العامة، فالنظريتان تكمل إحداهما الأخرى. بل لازالت قياساتنا إلى اليوم معتمدة على نظرية نيوتن.
عندما يسألك أحدهم ما الدليل على صحة نظرية نيوتن للجاذبية؟ و ما الدليل على دوران الأرض، و على أن الشمس هي مركز النظام الشمسي؟ أجبه كالتالي:
مكنتنا هذه النظريات من التنبؤ بشكل دقيق بمدارات الكواكب و النجوم التي نراها يوميا في السماء، وبالوقت والمكان الذي سيظهر فيه كوكب عطارد و الزهرة و المريخ في السماء. مكنت القياسات المستمدة من هذه النظريات، من التعرف وبدقة على أوقات ونسب حدوث كسوف الشمس وخسوف القمر. بفضل هذه القياسات استطعنا حساب مسارات المركبات التي وضعت أول إنسان على القمر و أمنت الهبوط الآمن لمركبة “كيروزتي” على المريخ و مسبار “روزيتا” على سطح المذنب. بدون هذه النظريات لن يكون بإمكانك تحديد المواقع باعتماد نظام ال GPS، ولن يكون بإمكانك كذلك الاعتماد على قياسات الأقمار الاصطناعية، وتلقي بث و مشاهدة القنوات التلفزية و الإذاعية. إذا كنت ترى أن كل هذا ليس بدليل ملموس على صحة هذه النظريات، و تقول بأنك مادمت غير قادر على لمس “الجاذبية بيديك” و مشاهدة الأرض وهي تدور بعينك، ترفض تصديق كل هذا و تنتظر برجك اليومي لمعرفة حظوظك في العمل و الدراسة، فأنت بلا شك تعاني خطبا ما.
نفس الشيء ينطبق على نظرية التطور ل”شارلز داروين”، فهي نظرية علمية تعتمد على عدد هائل من الأدلة من قبيل: الأدلة الإستحاثية و السجل الأحفوري والأدلة الوراثية (2،1) والأدلة البيوجيوغرافية ودلائل علم الأجنة . بل أكثر من هذا، فقد قام داروين في الكتاب الإطار لنظرية التطور “أصل الأنواع”، بوضع فصل خاص تحت عنوان ” عقبات النظرية” أورد فيه كل نقاط ضعف النظرية داعيا الباحثين إلى دراسة هذه النقط لإيجاد أجوبة كافية للتطور. يكفي إذن لتفنذ نظرية التطور أن تحاول القيام بما يلي :
1 – إيجاد ميزة واحدة لدى كائن حي وجدت بفعل الانتقاء الطبيعي لا تدعم بقاءه ولا تساعده على التكيف في محيطه.
2 – إيجاد مستحاثة و احدة، خارج إطارها الزمني الذي تنبأت به نظرية التطور، يكفي أن تجد أحفورة لإنسان حديث عاش في نفس الوقت رفقة أسلافه من القردة العليا.
وفي هذا الصدد يقول “نيل تايسون دي غراس”، عالم فيزياء الفلك الأمريكي :
يدعي البعض أن التطور مجرد نظرية، و هو يقصد بذلك أنها مجرد رأي خاص. إن نظرية التطور مثل نظرية الجاذبية حقيقة علمية. لقد حدث التطور فعلا. ومن وجهة نظري، إن قبول روابط القرابة مع كل أنواع الحياة على الأرض، ليس من صميم العلم فقط بل هو تجربة سمو روحي.
إلى مقال آخر و مغالطة أخرى عن نظرية التطور.
المصادر :
– كتاب منطق البحث العلمي لكارل بوبر .
– لماذا العلم لجيمس تريفل
– فلسفة العلم في القرن العشرين لدونالد جيليز
– كتاب Why Evolution is True – Jerry Coyne
الكاتب:
المدقق اللغوي: