يمكن تلخيص ما يحدث في مجال العلوم بصفة عامة وفي مجال العلوم النظرية بصفة خاصة بقصة الكرة الخفية التي ذكرها الفيزيائي ليون لدرمان، صاحب جائزة نوبل في الفيزياء، في كتابه “جسيم الإله”. والتي أذكرها هنا باختصار كبير: تصور أننا قمنا بدعوة فضائيين لحضور مباراة كرة تنس مثلا. ولنفترض أن هولاء الفضائيون أناس عاديون جدا يشبهوننا تماما في كل شيء، الإختلاف الوحيد انهم لا يتمكنون من رؤية اللون الأصفر، لون كرة التنس مثلا. قمنا بدعوتهم لمشاهدة إحدى مبارايات كرة التنس. كان كل شيء عادي بالنسبة لنا، بالنسبة للفضائيين كانت المباراة رائعة، شاهدوا لاعبي التنس يقومان بمختلف ضربات التنس التي نعرفها وهم يحاولون تسجيل نقط على الخصم، شاهدوا أيضا جامعي الكرات وهم يقومون بجمع الكرات، عاينوا تفاعل الجمهور، كان كل شيء رائعا باستثناء أنهم غير قادرين على فهم ما الذي يحدث بالضبط أمامهم، فعدم قدرتهم على رؤبة كرة التنس غير كل شيء تقريبا، فقوانين اللعبة لم تكن مفهومة لهم. بعد ساعات من متابعة المباراة لمعت فكرة في ذهن أحدهم وأسر بها إلى زملائه، الفكرة كانت التالي: “لنفترض وجود كرة خفية هي محور هذه اللعبة بأكملها “بعد أن وضع هذا الإفتراض، اختُبر وكانت النتيجة تمكن الفضائيين من إكمال مباراة التنس والتي كانت جد مملة بالنسبة إليهم في البداية. ريما، لم يمكن هذا الإفتراض من معرفة مكان تواجد الكرة بالضبط ومميزاتها، لكنه مكن من فهم قواعد لعبة التنس، وربما في المرة القادمة التي سيزورنا فيها الفضائيون، سيضعون نظارات خاصة ستمكنهم من رؤية التنس ومعرفة أبعادها ومكان تواجدها وسرعتها وغير ذلك من المعطيات والتي ستمكنهم ليس فقط من فهم قواعد اللعبة بل من سبر أغوار اللعبة واستكشاف أسرارها.
هذا بالضبط مايحدث في المجال العلمي. لسنا قادرين على رؤية مايحدث بالتفصيل للمادة على المستوى الميكروسكوبي. لم نكن قادرين على رؤية الجزئية والذرة والالكترون والبروتون والبوزنوات وغيرها من الدقائق الأساسية المكونة للمادة. لسنا قادرين على رؤية النوترينو رغم أن ملاييرا من دقائق النوترينو تعبر أجسادنا في كل ثانية. لسنا قادرين على رؤية الفوتونات رغم ان أجسادنا تتلقى أعدادا هائلة من هذه الدقائق كل دقيقة. لسنا قادرين على رؤية الذرات، رغم أن أجسادنا وكل شيء من حولنا بني من الذرات ورغم ان ديموقريطس تنبأ بوجودها قبل أكثر من 2000 سنة. لكننا في المقابلون قادرون على الاستنتاج أن كل هذه الدقائق هناك ولطالما كانت هناك تنتظر أن تكتشف.
قبل أكثر من خمس وستين سنة تنبأ بيتر هيجز بوجود هذا الجسيم ”بوزون هيجز”، بعد مرور خمسين سنة على هذا البحث تأكيد تجريبيا صحة ما قاله هيجز. افترض باولي سنة 1930 وجود النوترينو واعتبره جسيما صغيرا يحمل مقدارا من الطاقة، هذا الافتراض كان كافيا لتكون معادلات التفتتات النووية منطقية، بالضبط كما فعل الفضائيون عندما اكتشفوا وجود كرة التنس لتبدو اللعبة منطقية لهم، سنوات بعد ذلك تبين أن باولي كان محقا، وهذا ما أثبتته تجارب فيرمي فيما بعد وأثبت في مختبرات سيرن كذلك. هو الشيء نفسه الذي قام به الفيزيائي رذرفورد عندما تمكن من إعطاء نموذجه الذري، والذي كان صحيحا إلى حد كبير، اعتمادا على مسارات دقائق الهلييوم والتي تغير اتجاها عند مواضع معينة على صفيحة الذهب. الأمر نفسه حدث ويحدث دوما على المستوى الماكروسكوبي، عندما يتم افتراض تواجد ثقب أسود أو نجم أو كوكب في موضع محدد عندما نلاحظ أن أشعة الضوء يتغير مسارها في هذا الموضع.
قدرة التنبؤ لدى الفيزيائين ذهبت إلى أبعد الحدود، كانت أقوى من تنبؤات نورسترادموس وتنبؤات كل الدجالين، تماما كما حدث عندما تنبأ هالي بتوقيت مرور المذنب الذي سمى باسمه “مذنب هالي”، لم يعش إدموند هالي ليرى صحة نبؤته بعد عودة المذنب سنة 1758. كان اخر ظهور للمذنب سنة 1986 وسيظهر بعد ذلك سنة 2061 تماما كما تنبأت بذلك دراسة مسار هذا المذنب.
نفس الشيء فعله أينتشاين من قبل، حين تنبأ بانحناء مسار الضوء عند مروره في مجال الثقالة للأجسام الكتلية الكبيرة. وهو ما حدث في كسوف 1919 عندما راقب الفلكي آرثر ادينغتون ظاهرة الكسوف وتأكد بالفعل أن مسار الضوء الاتي من النجوم ينحني عند مروره بالقرب من النجم. هو تقريبا نفس الشيء الذي تظهره هذه الصورة الملتقطة حديثا والتي تبين انحناء مسار الضوء أثناء مروره بجوار جسم وذلك نتيجة قوى الجاذبية الكبيرة فيما يسمى مفعول “عدسة الجاذبية” والذي تنبأت به النسبية العامة قبل 100 سنة.
إن الكون بمثابة ملعب تنس كبير، وما نحاول فعله هو فهم قواعد اللعبة ربما للفرجة والاستمتاع أو ربما لمجرد الفهم نفسه. لكن الشيء المؤكد هو أن المرة المقبلة التي سيعود فيها الفضائيون فسيتمكنون بالتأكيد من رؤية كرة التنس وفهم قواعد اللعبة بشكل أوضح وأعمق.
الكاتب: