في حقيقة الأمر إجابة هذا السؤال تتعلق بتاريخ كل واحد منا مع مادة الرياضيات منذ المرحلة الإبتدائية أو قبل ذلك. الأسباب لا تتعلق بالمادة في حد ذاتها بل في طريقة نظرنا إليها. الرياضيات في مفهومها الأصلي هي مجموعة من تقنيات البرهنة التي تعتبر أداة فعالة لفهم العلوم الأخرى. فمنذ البدايات الأولى للإنسان في محاولته وضع تفسيرات للتغيرات التي تحدث حوله، سواء كانت تعاقب الليل والنهار، أو حركية الكواكب في السماء، أو تعاقب الفصول، أصبحت أدواته ترتقي شيئا فشيئا إلى أن وصلنا لمفاهيم مجردة كالجاذبية الكونية لنيوتن وتقعر الفضاء الزمني لإنشتاين. و هنا يأتي دور الرياضيات لتحويل هذه الحقائق العلمية المحيطة بنا إلى تمثلات داخل عقولنا. على سبيل المثال : عندما نسمع للوهلة الأولى بالجاذبية الكونية، لا يسعنا تجسيدها على أرض الواقع لكونها مفهوما مجردا، ولكن بفضل العلاقات الرياضية التي تربط المقادير الفيزيائية المتعلقة بهذا المفهوم (الوزن، ثابتة الجاذبية الكونية، شدة مجال الثقالة، الكتلة…) تمكنا من فهم الجاذبية وكيف تؤثر على الأجسام المتواجدة حولنا. لا بد من أن يكون تعلم الرياضيات مبكرا، يفتح شهية المتعلم للمضي قدما. لكن النظام التعليمي، كما يطبق اليوم، بعيد كل البعد عن ذلك. فعوض أن تكون الرياضيات تمارين فكرية ممتعة، أصبحت عائقا يعتبر كل من يتجاوزه ذكيا، هكذا أصبحت هذه المادة آداة للإنتقاء.
في كتابها ” عمر القبطان ” تطرقت “ستيلا باروك” إلى بعض الأخطاء المرتكبة من طرف المتعلمين في الرياضيات. فبعدما قُدمت لتلاميذ المرحلة الإبتدائية على أنها باحثة أتت من أجل تقييم مستواهم في الرياضيات، طرحت عليهم، وبجدية عالية، مسألة، كالآتي : “علما أن طول سفينة يبلغ 120 مترا، وتزن حمولتها 2000 طن. ما هو عمر القبطان إذن؟ ” . ثلاثة أرباع تلامذة الصف الثاني، وأكثر من نصفهم في الصف الخامس، توصلوا إلى أجوبة عن طريق جمع (مع أنه من غير المنطقي جمع الكتلة والطول لأنهما مقدارين مختلفين وغير متجانسين)، ضرب أو قسمة الأعداد الواردة في نص المسألة،. وسواء أتوصلوا إلى نتيجة يكون فيها عمر القبطان ألف عام أو أقل من عشر سنوات، فإنهم لا يحتارون لأن ذلك “يسمى الرياضيات لا الواقع”. وهذا ينم عن قلة الوعي في استخدام العمليات الرياضية.
ومن بين الأسباب التي تجعلنا نمقت الرياضيات:
– إقتناعنا بفكرة كون الرياضيات مادة صعبة، بعيدة عن الواقع مقارنة مع مادة الفيزياء مثلا (وهذا ما نسمعه عادة في الوسط الدراسي).
– النظام التعليمي حول الرياضيات إلى مادة للإنتقاء، مملة، وخالية من روح التحدى.
– أننا نتعلم فقط في المدرسة أسس الرياضيات، ولا نتعلم كيف نكون مبتكرين. كما أن النظام التعليمي يؤول إلى توحيد الأدمغة. أفضل مثال على هذا هو العالم “كوصGauss “، فعندما كان في المرحلة الإبتدائية، كان يأمرهم الأستاذ بإنجاز عمليات حسابية طويلة ليستغرقوا وقتا، بينما ينعم ببعض الهدوء. طلب منهم حساب ما يلي: 100+……+2+1، الكل طبعا شرع في الحساب، إلا أن كوص بقي يتأمل العملية الحسابية مليا، ولاحظ أن عند جمع العددين الموجودين في الطرفين (101=100+1) نحصل على 101، و عند جمع 99 و 2 نحصل على نفس المجموع 101، وهكذا دواليك إلى أن وصل إلى 101=51+50، إذن نحصل على 101 خمسون مرة. و من ثم يحصل على 5050=50×101=100+…+3+2+1. وهكذا تفوق كوص على زملائه، لأنه، وبكل بساطة، نظر إلى التمرين على أنه تحد ممتع، وحاول أن يفكر بطريقة مبتكرة وخارجة عن المألوف. ونحن اليوم نستعمل هذه الطريقة في الحسابيات دون أن نعرف مصدرها (1). هكذا يجب أن ننظر إلى الرياضيات “تحد ممتع”. طبعا الفتى كوص دفع أستاذه للجنون.
الرياضيات ليست متاحة فقط لبعض العقول الموهوبة، بل هي متاحة للجميع لكن بشرط تعلم أسسها على النحو الصحيح، و لا داعي لنخدع أنفسنا بأن العباقرة هم وحدهم يجيدون الرياضيات. وختاما، و كما يقول “ديكارت” (العقل أعدل قسمة بين الناس).
(1) Sn=1+2+3+4+….+n=
الكاتب: