بعد المقال الأول، الذي كان مقدمةََ عن تاريخ العلوم عامة و تاريخ علم الكيمياء خاصة . أتى المقال الثاني ليتحدث بالتفصيل عن بدايات تبلور علم الكيمياء كما نعرفه على صيغته الحالية. فكانت البداية مع الإنسان القديم و بدايات تعرفه على ماحوله من الظواهر الطبيعية. إلا أن غياب التفسيرات العلمية لكل هذه الظواهر و غيرها دفع الإنسان البدائي إلى تسخير كل إمكانياته من أجل الفهم و البحث عن الأجوبة الشافية لكل ما يراه حوله، مما أدى إلى ظهور علم ”الخيمياء”. في هذا المقال سنتعرف على أصل هذه الكلمة، بالإضافة إلى المفاهيم و النظريات التي مهدت لظهور هذا العلم .
يستعمل مصطلح الخيمياء للدلالة على الكيمياء القديمة “Alchemy”. تشير روايات كثيرة إلى أن ظهور مصطلح الخيمياء كان في مصر القديمة، حيث كلمة “خم Khem” كانت تستعمل في إشارة إلى خصوبة السهول التي تحيط بنهر النيل. وبالعودة لمصر القديمة، نتحدث في الان نفسه عن المعتقدات السائدة آنذاك، و التي كانت تُرجح وجود حياة أخرى بعد الموت، لذلك كان لعملية التحنيط مكانة كبيرة في ذلك العصر، مما أدى إلى معرفة بدائية بكيمياء كان هدفها أساسا الإطالة في العمر، وتحقيق الخلود. وعند غزو الإسكندر الأكبر لمصر سنة 322 قبل الميلاد، أبدى الفلاسفة اليونانيون اهتماما كبيرا بالمعتقدات المصرية، حيث أعادوا النظر في فلسفتهم و نظرياتهم، مما أدى إلى ظهور “خيمياء Khemia”، الإسم اليوناني للكلمة المصرية. و عندما أحتُلت مصر في القرن السابع الميلادي من قبل العرب، أضِيفت ‘أل” لكلمة “خيمياء” فأصبحت معرفة ” الخيمياء”. و قد أشارت روايات أخرى إلى أن كلمة الخيمياء قد تكون لديها أصول أخرى ككلمة “Khumos” اليونانية و التي تعني “مائع-fluid”، إلا أن تضارب الآراء حول هذا الموضوع في هاته الفترة المبكرة تعود إلى حادث حرق المسيحيين لمكتبة الإسكندرية سنة 391، وتدمير العديد من الأعمال و الوثائق المرتبطة بهذا الموضوع. و بالحديث عن بدايات الخيمياء، لا بد من الإشارة لبعض المفاهيم و النظريات التي مهدت لظهور هذا العلم و لفكرة استخدامه لأغراض شتى. فقد كان الفلاسفة قديما يعتبرون أن المادة المحيطة بنا و التي تدخل في تكون الكون، هي نتاج مجموعة من التغيرات والتحولات. و في محاولة لفهم أوسع للمادة، والتغيرات التي تطرأ على الأشياء، ظهرت نظرية تسمى “نظرية العناصر الأربعة”، و التي سنعود إليها بالتفصيل في مقالاتنا اللاحقة، وتعتبر أن المادة تتكون عموما من “التربة و الهواء و النار و الماء”، واختلاف المادة هو فقط نتيجة لنسب كلِ من العناصر الأربعة المكونة لها. ظهرت هاته النظرية خلال الفترة 432ـ492 قبل الميلاد من طرف الفيلسون اليوناني إمبيدوكليس Empedocles، إلا أنها عرفت شهرة أكبر من قبل الفيلسوف أريسطول Aristole سنة 384ـ322 قبل الميلاد 1. و يبدو أن الخيمياء الغربية قد أنشأت في مصر الهلنستية و الشرق الأدنى خلال القرنين قبل الميلاد، جنبا إلى جنب مع وجود العديد من الممارسات الخرافية و الشائعة آنذاك بشكل كبير، و التي تهدف أساسا إلى تقليد الأحجار الكريمة و المعادن النفيسة 2. و على الرغم من أن هاته الممارسات تفتقر إلى الدقة المنطقية التي تتميز بها الفلسفة اليونانية في ما مضى، إلا أن الخيميائيون ٱستماتوا في محاولاتهم جلب أنظار و ٱهتمام العالم للعديد من العمليات الخيميائية التي يحاولون تطويرها، و التي أدت في نهاية المطاف إلى ظهور أفكار جديدة تهدف أساسا إلى تحويل امعادن الخسيسة إلى معادن ثمينة، إضافة إلى تطوير ما يسمىب “إكسير الحياة” و الذي سيحقق للإنسان الخلود و طول العمر. و رغم كل ما تربط به الخيمياء من أفكار و معتقدات قد تبدوا خرافية، إلا أنها نجحت إلى حد ما في تطوير جوانب أخرى من مناحي حياة الإنسان آنذاك، حيث عرفت العديد من المركبات الكيميائية و التي ساهمت بشكل كبير في تطوير حضارات شتى، كتلك المواد التي ٱحتوتها مخططات تعود للعصور الآشورية السومارية، و التي شملت بعض المصطلحات الكيميائية. ففي حكم الملك الآسوري أسوربانيبال “Assurbanipal” سنة 668ـ626 قبل الميلاد، تضمنت هاته القوائم مجموعة من المركبات الكيميائية كالملح و الجبس إضافة إلى مواد تعرف اليوم بكيبريتات المعادن أو الكيبريتيد 3. أما في مصر القديمة، فقد كانت لكاربونات الصوديوم أهمية كبيرة بحيث كانت تستعمل في عمليات التحنيط. مواد أخرى عرفت بخصائصها الكيميائية كملح النشادر أو ما يصطلح عليه علميا بكلورور الأمونيوم NH4Cl، ألى أن أص بح ٱستخراج الزئبق من الزنجفر Cinnabar أمرا شائعا في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد 4، بينما لم تعرف طريقة الحصول على HgS من خلال مزج و تبخير الزئبق و الكيبريت حتى الفترة قبل القرن الرابع الميلادي 5، و بعدها بكثير، ٱكتشف الصينيون الرصاص حوالي القرن السابع الميلادي. في المقال المقبل بحول الله، سنتطرق لما يعرف ب “نظرية العناصر الأربعة”، و ما لعبته من دور لتحقيق الأهداف التي ظهرت أساسا من أجلها الخيمياء. المراجع:
1. Weyer J., in the book: Alchemie. Lexikon einer hermetischen Wissenschaft (Priesner C., Figala K., eds.), p. 124. C. H. Beck, M¸nchen 1998
2. Lindsay J.: The Origin of Alchemy in Graeco-Roman Egypt. F. Muller, London 1970.
3. Vladimir Karpenko and John A. Norris, “Virtol in the history of chemistry”, Chem. Listy 96, 997- 1005 (2002)
4. Caley E. R., Richards J. C.: Theophrastus On Stones, p. 58 and 203ñ205. Ohio State Univ., Ohio 1956.
5. Priesner C., in the book: Alchemie. Lexikon einer hermetischen Wissenschaft (Priesner C., Figala K., eds.), p. 378. C. H. Beck, M¸nchen 1998.
الكاتب: