image_pdfimage_print

هذا المقال هو دعوة لإعادة النظر فيما إذا كانت الأنواع غير البشرية قادرة على تدمير نفسها ذاتيًا.

أفادت وسائل إعلام صينية سنة 2011 أن أنثى دب أسيرة في مزرعة قتلت ابن صاحب المزرعة ثم قتلت نفسها هربا من التعذيب الذي كانت تتعرض له. وفي سنة 2012 نشر المدون “مارك بيكوف” على مدونة علم النفس اليوم (Psychology Today) مقالا عن أنثى حمار أغرقت نفسها في بحيرة بعد وفاة صغيرها. وفي حادثة أخرى توفيت كلبة تدعى لوسي جراء امتناعها عن تناول الطعام والماء بعد فترة وجيزة من موت مالكها.

على الرغم من أن العديد من الناس يسارعون إلى تجاهل السؤال “هل يمكن للحيوانات أن تنتحر؟”، باعتباره تساؤلا سخيفا، وربما خياليا، إلا أنه وجب علينا التوقف عنده ومنحه مساحة مهمة من التفكير الجاد.

يفترض العلماء أساسا أن الانتحار يمثل فعلا سلوكيا يتطلب إدراكا أوليا بالذات ووعيا بالوجود، الشيء الذي يجعله مرتبطا بشكل مباشر بالبشر. فالانتحار هو نتيجة لدوافع قوية تنتج قرارا واعيا يتجاوز غريزة البقاء ويدفع الفرد للحد من حياته، في فعل يمثل بشكل واضح الإرادة الحرة (Freewill) ووعي بحتمية الموت. وحين نفترض غياب هذا المبدأ لدى الحيوانات يصبح من الصعب تفسير سلوكها المؤدي للموت على لأنه انتحار بالمعنى المماثل لدى البشر.

يسير هذا الافتراض بشكل خاطئ بطريقتين مختلفتين على الأقل، إذ يبالغ في تقدير “الإرادة الحرة” والطبيعة “الواعية للانعكاس الذاتي” للانتحار البشري؛ ضاربا عرض الحائط ثروة من الأدلة التجريبية حول القدرات المعرفية للحيوانات غير البشرية، بما في ذلك قاعدة بيانات بحثية متنامية حول السلوكيات المتعلقة بالموت في مجموعة واسعة من الأنواع (كالحيتان والدلافين).

وفي دراسة بحثية سنة 2017 لأستاذ الفلسفة “ديفيد بينيا-غوزمان” (David Peña-Guzmán) من جامعة ولاية “سان فرانسيسكو”، نشرها في مجلة (Animal Sentience) تحت عنوان “هل يمكن أن تنتحر الحيوانات غير البشرية؟”، عرض فيها قضية قوية تشير إلى أن الحيوانات غير البشرية يمكنها القيام بسلوكيات ذاتية تؤدي إلى إيذاء الذات أو الموت، ولا يوجد أي سبب علمي أو فلسفي جيد للاعتقاد بأن هذه السلوكيات تختلف عما يحدث بين الأنواع البشرية.

تناول “بينيا غوزمان” في البداية بعض الأسباب التي قد تجعل الحيوانات غير قادرة على السلوك الانتحاري. فعلى سبيل المثال، قام بالبحث فيما إذا كانت قاعدة البيانات التجريبية الحالية تدعم الادعاء بأن البشر فقط من يملكون نوعا من التفكير الذاتي الواعي الذي يعتقد في مرحلة ما بضرورة الانتحار. لكنه لم يجد شيئا، وبدلا من ذلك وجد أن جل الأبحاث تشير إلى أن العقول البشرية والحيوانية متشابهة أكثر بكثير مما هي مختلفة، وأن جميع الحيوانات (البشرية وغير البشرية) توجد على طول تسلسل معرفي متصل. فالحيوانات مثل البشر، تمتلك ثلاثة أنواع مختلفة على الأقل من الذاتية، الشيء الذي يتقاطع مع مملكة الحيوان بطرق تفصيلية وغير خطية”.

ويعتقد “بينيا غوزمان” أن “الانتحار” يُفهم بشكل أفضل ليس كسلوك واحد، ولكن كمجموعة واسعة من السلوكيات المدمرة للذات. تعمل هذه السلوكيات على طول سلسلة معرفية متصلة، من المحتمل أن تفسر بقوة من خلال الحسابات التطورية لاختيار الأقارب (كالدبابير التي تلدغ أنفسها حتى الموت بعد التزاوج) والنظريات البيئية (كسلوكيات التشتت التي تفسر التدمير الذاتي للقوارض)، إضافة إلى السلوكيات التي تبدو موازية بشكل أقوى لما نعتقد عادة أنه انتحار بشري. في هذه النهاية من السلسلة المتواصلة، قدم “بينيا غوزمان” مثالا حيا للحيوانات الأسيرة التي تنخرط في سلوكيات إيذاء الذات المرتبطة بالتوتر، وهو أنثى دلفين تدعى “كاثي”، أصيبت بالاكتئاب بشكل متزايد بعد أن عاشت حياتها كلها في الأسر، ويعتقد أنها قد قتلت نفسها. وقد عرض الفيلم الوثائقي (THE COVE) الذي تم إنتاجه سنة 2009 وحاز على جائزة “الأوسكار”، قصة حياة “كاثي” في الأسر ونهايتها.

وتمثل الفكرة القائلة بأن الحيوانات قادرة على القيام بسلوكيات إيذاء الذات وتدميرها، لدرجة تؤدي إلى موتها، تحديا كبيرا على العديد من الجبهات. إذ تزعج أولئك الذين يعتقدون أن البشر وحدهم يمتلكون وعيًا شخصيًا ويختلفون نوعيا عن الحيوانات. وتقترح هذه الفكرة أن للحيوانات مستوى خاصا من “قدرات اتخاذ القرار والإرادة” والتي تتجاوز بكثير ما ننسبها لهم عادة.

إن الاعتراف بهذه القدرة ستكون له آثار أخلاقية بعيدة المدى. فعلى سبيل المثال، إذا كان باستطاعة الحيوانات أن تبدي معارضة لأنواع مختلفة من التفاعلات مع البشر، ألا يجب أن نجد طرقًا لاحترام خياراتها من خلال السماح لها بالانسحاب من بروتوكولات البحث التي تجدها مؤلمة أو مخيفة؟

إذا استطاعت الحيوانات تبني سلوك انتحاري فيبدو أن هذا يفترض مسبقًا وجود وعي أعمق بالموت، ما قد تكون له آثار مهمة على حياة الحيوانات الأسيرة. وكمثال على ذلك، أظهر البحث الذي أجراه “جيمس أندرسون” وزملاؤه (وهو أستاذ باحث بقسم العلوم النفسية بجامعة “كويطو” (Kyoto)) حول ردود فعل مجموعة من الشمبانزي تجاه وفاة أحد أعضائها، أن الشمبانزي أظهر مجموعة من السلوكيات تشبه إلى حد كبير ما نراه في المجموعات البشرية، فقد حاولت بداية البحث عن علامات للحياة في جسد رفيقها، وحين لم يستجب ظلت قربه في حزن مُطلِقِين أصواتا في الجو تشبه الجنائز البشرية. وبما أنه من بين أهداف الرفق بالحيوان توفير أكبر عدد من الفرص للحيوانات الأسيرة قصد الانخراط في السلوك الطبيعي لأنواع محددة، فإن ذلك يجب أن يشمل بكل تأكيد تلك السلوكيات المتعلقة بالوفاة.

وبالعودة إلى الدراسة التي أجراها “بينيا غوزمان”، فإن أحد الأسئلة الأخيرة التي أثارها هو ما إذا كان الأسر نفسه عامل خطر لانتحار الحيوانات. فبعض السلوكيات المدمرة للذات المسجلة في الأدبيات الأخلاقية كانت نتيجة للضغوط المتعلقة بالأسر، كعض الذات وتشويهها وتعريضها للخطر. وقد كتب: “أظهرت الأبحاث المستقبلية أن بعض الحيوانات تكون أكثر احتمالا للتدمير الذاتي في بيئات معينة. لهذا قد يكون واجبا علينا أخلاقيا تغيير تلك البيئات أو نقل تلك الحيوانات”.

قد يكون هذا مغيرا للعبة، الشيء الذي يعد بحرب كبيرة خصوصا من قبل الشركات الصناعية التي تعتمد على حيوانات التجارب من أجل تطوير منتجاتها، مثل شركات تصنيع الأدوية ومواد التجميل.

في الأخير، حتى وإن لم تثبت حقيقة انتحار الحيوانات، تظل هذه الأخيرة كائنات حية من حقها أن تعيش في بيئتها بشكل طبيعي. وكوننا من الرئيسيات الواعية، يتحتم علينا أخلاقيا أن نضمن سلامتها وحمايتها من خطر الموت والانقراض. فمهما اقتضى الحال ستظل هذه الكائنات رفيقة لنا على هذا الكوكب وقد يكون استمرار جنسنا رهينا باستمرارها.

__________________________________________________

ترجمة متصرفة لمقال الدكتورة Jessica Pierce : ” نظرة جديدة حول انتحار الحيوانات – A New Look at Animal Suicide”

مصادر عامة :

https://www.psychologytoday.com/us/blog/all-dogs-go-heaven/201801/new-look-animal-suicide

https://animalstudiesrepository.org/cgi/viewcontent.cgi?article=1201&context=animsent

https://www.cell.com/current-biology/fulltext/S0960-9822(10)00145-4


الكاتب: [a ِ] [a ِ]
المدقق اللغوي: علي توعدي