image_pdfimage_print

تعددت مظاهر ٱستفادة الغرب من المعرفة الإسلامية في شتى المجالات. عددنا بعضها في مقالاتنا السابقة تشمل العلوم الطبيعية والحرف، إلا أن الهندسة كانت من أكثر المجالات التي برع فيها العلماء المسلمون وعمل الغرب على الإستفادة من معارفهم. ففي الوقت الذي كان فيه ٱنتقال العلوم التي تطرقنا إليها في ما مضى عن طريق ثراث مكتوب عبر ترجمة أعمال العلماء المسلمين من لغتهم إلى اللغات الأوروبية الأخرى مرورا في كثيرا من الحالات عبر اللاتينية، إلا أن ٱنتقال المعرفة في مجال الهندسة قد سلك طريقا مختلفا حيث لم يعتمد على ما هو مكتوب بقدر ما جاء تليبية لحاجيات المجتمعات آنذاك، إذ تشير المصادر إلى أنه لم تكن هناك وفرة في المؤلفات في مجال الهندسة، وأما القليل التي كتب لها البقاء لم تترجم أبدا إلى أية لغة أوروبية أو لاتينية حتى عهد قريب.
وأمام هذا الأمر، و لتتبع ٱنتقال الهندسة من العالم الإسلامي ألى الغرب، كان لزما في كثير من المرات تتبع ٱنتشار الإنشاء ات الهندسية من زمان و مكان ظهورها الأول، بالرغم من أن الأمر يتطلب الكثير من الحذر في ٱستعمال المعلومات المتوفرة، حيث أن ظهور الإنشاءات الهندسية لأول مرة في العالم الإسلامي ربما يكون تطويرا لأفكار مصدرها حضارات سابقة، أو أن تكون نتيجة ظهورها من جديد عندما توسعت المعارف وفحص المختصون إنشاءات أسلافهم من جديد.
فعلا سبيل المثال، و من بين آلات رفع المياه التقليدية، ٱستخدم “الشادوف” في العالم قبل ظهور الإسلام، حيث يستمر ٱستخدامه إلى يومنا هذا في مناطق عدة في العالم. أما بالنسبة لتتبع ٱنتشار الساقية والناعور، فقد اكتنف هذا الموضوع الكثير من الغموض من جانب المؤلفين القروسطيين خاصة في ما يخص التسميات و المصطلحات. ففي سوريا، تعرف الساقية بالآلة التي يديرها حيوان، بينما تعرف الناعورة بالآلة التي تدار بقوة التيار، إلا أن العديد من المؤلفين يرون أن المصطلحين قابلين للتبادل. كما ظهر أيضا مصطلح “الدولاب الفارسي” ليطلق على كلتا الآلتين دون تمييز بينهما، مما دفع العديد للإعتقاد بأن أصل إحدى الآلتين او كلاهما كان فارسيا. إلا أنه، و بصرف النظر عن أصلها، إلا أن الآلتين كانت قد ٱستخدمت في الشرق الأوسط قبل العصر الإسلامي. و رغم هذا، تشير العديد من المصادر، ٱعتمادا على أدلة و إثباتات من إيطاليا في القرن الخامس عشر الميلادي، إلى أن المسلمين هم من أدخلوا الساقية إلى شبه الجزيرة الأيبيرية، ثم ٱنتشرت في البلاد الأوروبية الأخرى. أما بالنسبة للناعورة، و التي تحتاج إلى تيار مائي لتشغيلها، فقد ٱنتشرت هذه الآلة في أنحاء العالم الإسلامي إبان العصور الوسطى، مثال ذلك الآلات الفاخرة على نهر العاص في حماه السورية .
أما بالنسبة للتقنيات الدقيقة، فلا يوجد أي دليل على أن المؤلفات الإسلامية قد ترجمت إلى أية لغة قبل العصور الحديثة. و لكن من خلال سرد قائمة جميع الأفكار الإسلامية التي ظهرت في الغرب، فقد شكلت آلات بني موسى و الجرزي عناصر أساسية لتطوير الآلات في أوروبا. فعلى سبيل المثال، أعيد ٱبتكار مبدأ التحكم بالتعددية الإستردادية للمحركات البخارية خلال القرن الثامن عشر الميلادي. أما في مجال التوقيت، وخاصة الساعات الميكانيكية القديمة التي كانت تعمل بتأثير الوزن (الجاذبية) أو الميزان، يمكن ٱعتبار العوامات الثقيلة في ساعات رضوان والجزري بمثابة أثقال ذات موازين مزودة بأنظمة تحكم تعمل بالتغذية الإستردادية. ولكن ساعات الزئبق المشار إليها في كتاب المعرفة كانت تدار بالثقل على نحو دقيق. وبالرغم من أن الميزان في مثل تلك الساعات كان هيدروليكيا، إلا أنها كانت فعالة منذ عرفت في العالم الإسلامي خلال القرن الحادي عشر الميلادي.
و كان ميناء الساعة الأسطرلابي معروفا أيضا في الساعة المائية في فاس في بدايات القرن الرابع عشر الميلادي. و بالإضافة إلى أجهزة التحكم الآلي المختلفة، كانت هناك إشارات توقيت مسموعة تصدرها آلات موسيقية من قبيل كرات ساقة على صنوج. وٱستخدمت التروس في الآلات الإسلامية مثل الأسطرلاب و ساعات التقويم المسننة، بحث عرفت أول النماذج في القرن الحادي عشر الميلادي في اسبانيا الإسلامية. فقد كانت آلات متقدمة قد صنعت في اسبانيا الاسلامية، كالساعة الزئبقية المشار إليها في Libros del saber والآلات التي وصفها المرادي. فقد أشار الأخير في مقدمة كتابه أنه يعمل ليكون تأليف كتابه بعثا للكثير من المواضيه التي كانت يطولها النسيان، في إشارة إلى أن هذه التقنيات كانت معروفة مند زمن في اسبانيا الإسلامية. وبالتالي فإن هناك ما يدعم أن ساعات مائية مركبة قد صنعت في شبه الجزيرة الإيبيرية مع أن الوصف الأول للساعات المائية في أوروبا سبق تدوينه في دير ريبول، المكان الدي انتقلت منه معرفة الأسطرلاب إلى أوروبا. ويرجح أيضا أن ٱنتشار معرفة الأسطرلاب في أوروبا كانت على يد جلبرت الأوريلاكي الذي أصبح بعد ذلك البابا سلفستر الثاني بعد أن زار دير ريبول سنة 967م. و نظرا إلى أن الكنيسة كانت حريصة على الإهتمام باكتشاف وسيلة لضبط الوقت، فمن المحتمل ان يكون أحد القسيسين، إما جلبرت نفسه أو زائر آخر لدير ريبول قد نقل المعلومات الخاصة بالساعات المائية الإسلامية إلى أوروبا.
في مقالنا المقبل، سنتطرق بحول الله لمظاهر استفادة الغرب من تقدم المسلمين في مجالات البناء و العمران و السدود و الري.
المراجع:

Science and Engineering in the Arab-Islamic civilization, written by Donald R. Hill, world of knowledge .305 in July 2004
William Montgomery Watt., The influence of Islam on Medieval Europe, Edinburgh University Press, Edinburgh, 1972. ISBN-13: 978-0748605170


الكاتب: محمد ماخا