نظرية التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي، التي ضَمّنَها عالم الطبيعة البريطاني تشارلز داروين في كتابه “أصل الأنواع” سنة 1859، هي نظرية تصف العملية التي تتغير من خلالها الكائنات الحية بمرور الوقت نتيجة حدوث تغيرات في الصفات الجسدية المورّثة أو السلوكية، وتسمح للكائن بالتكيف بشكل أفضل مع بيئته و مساعدته على البقاء على قيد الحياة في الظروف المحيطة به، وتمرير مورثاته إلى خلَفه. وهي واحدة من النظريات التى أثبتت بشكل أفضل في تاريخ العلم، إذ أنها مدعومة بمجموعة واسعة من الأدلة من مختلف التخصصات العلمية، بما في ذلك علم المسنحاثات، وعلم الوراثة …
وتقوم نظرية التطور على نقطتين أساسيتين، حسب برايان ريتشموند، القيم في قسم الأنتروبولوجيا بالمتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي بنيويورك: “كل أشكال الحياة على سطح الأرض، متصلة وترتبط ببعضها البعض”، وهذا التنوع في الحياة هو نتاج لـ “التعديلات في الساكنات عن طريق الانتقاء الطبيعي، حيث تُفضل بعض الصفات على الأخرى حسب طبيعة المحيط”. وتقول بريانا بوبنر، عالمة الأنثروبولوجيا بمتحف سميثسونيا الوطني للتاريخ الطبيعي بواشنطن، أنه يمكن وصف النظرية ببساطة، بـ: “التوريث مع التعديل”. وتوصف نظرية التطور أحيانا بعبارة “البقاء للأصلح”، لكن يمكن أن تكون أمرا مضللا. فهنا، “أصلح” لا تشير إلى قوة الكائن الحي أو قدرته الجسدية، وإنما تشير إلى القدرة على البقاء والتكاثر.
مثال أصل الحيتان
في الطبعة الأولى من كتاب “أصل الأنواع” عام 1859، تساءل داروين، حول الكيفية التي يمكن بها للانتقاء الطبيعي من أن يحول ثدييات برية إلى حيتان. ومن الأمثلة الافتراضية، اقترح داروين أن الدببة السوداء التي كانت تعيش بأمريكا الشمالية، وكانت معروفة بصيدها للحشرات عن طريق السباحة في الماء مع إبقاء أفواهها مفتوحة، قد تحولت فيما بعد إلى حيتان. يقول داروين:
“لا أرى أي صعوبة في سباق الدببة نحو التكيف مع البيئة المائية، عن طريق الإنتقاء الطبيعي، واكتساب بنيات وعادات جديدة، و بأفواه أكبر فأكبر، حتى أنتج مخلوق جديد، الذي تحول إلى حوت”. لكن الفكرة واجهت انتقادات شديدة من طرف العلماء والعموم، حتى أن داروين شعر بالحرج لما لقيه من سخرية، ليقوم بعد ذلك بحذف هذا الجزء في طبعات لاحقة من الكتاب. لكن الآن، يَعرف العلماء أن فكرة داروين كانت صائبة، غير أنه اختار الحيوان الخطأ: فبدلا من النظر إلى الدببة، كان على دارون النظر في مثال الأبقار وفرس النهر. لكن، تبقى قصة أصل الحيتان، واحدة من أروع الأمثلة وأكثرها اكتمالا عند العلماء، عن تطور الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي.
آخر سلف للحيتان الحديثة، كان حيوان سينونيكس Sinonyx، في الأعلى على اليسار، وهو حيوان يشبه الضبع، كان يعيش على الشاطئ، منذ أكثر من 60 مليون سنة. تطور فيما بعد إلى عدة أشكال انتقالية: من الأعلى إلى الأسفل، اندوهيوس Indohyus ، الأمبيلوسيتوس Ambulocetus ، رودوسيتوس Rodhocetus ، باسيلوسورس Basilosaurus ، دوريودون Dorudon، وأخيرا، الحوت الأحدب الحديث.
(Credit: NOAA)
الانتقاء الطبيعي
لفهم أصل الحيتان في المثال السابق، من الضروري أن نفهم بشكل أساسي آلية عمل الانتقاء الطبيعي، الذي يعمل على تغيير الأنواع عبر إحداث تغيرات صغيرة في اللون أو في الحجم أو في صفات أخرى على مستوى الساكنة على مدى عدة أجيال. وهذا ما يعرف بـ “التطور الصّغروي Microevolution”. لكن الانتقاء الطبيعي قادر على أكثر من ذلك بكثير. فإذا توفر له الوقت الكافي مع التغيرات المتراكمة يمكنه إنتاج أنواع جديدة كليا، وهو ما يعرف بـ “التطور الكبروي”. Macroevolution. إذ بإمكانه أن يحول الديناصورات إلى طيور، والثدييات البرمائية إلى حيتان. فلنأخذ على سبيل المثال الحيتان، فبالاعتماد على التطور مُوجها، وعلى آلية عمل الانتقاء الطبيعي، عرف علماء الأحياء أن انتقال أسلاف الحيتان من اليابسة إلى العيش في الماء، قد تم عبر سلسلة من المراحل يمكن التنبؤ بها على النحو التالي:
أدت التغيرات الوراثية العشوائية لدى حوت واحد على الأقل إلى ظهور خياشم في الموضع الخلفي من الرأس. هذا الحيوان ومع هذه الصفة الجديدة، سيكون أكثر ملاءمة للعيش في بيئة بحرية واكتشاف ظروف عيش وموارد جديدة. لاحقا، ومع تراكم التغيرات الوراثية الخاصة بهذه الصفة الجديدة في الأجيال الموالية، سيبدأ الأنف بالتراجع شيئا فشيئا إلى الجهة الخلفية من الرأس. وقد شملت التغييرات أيضا أجزاء أخرى من جسم هذه الحيتان البدائية. حيث تحولت الأرجل الأمامية إلى زعانف، في حين اختفت الأرجل الخلفية تماما، فأصبح الجسم أكثر انسيابية لتسهيل حركتها داخل المياه.
قام داروين بوصف شكل من أشكال الانتقاء الطبيعي الذي يعتمد على مدى نجاح الكائن الحي في جذب وإثارة انتباه شريكه للتزاوج، وهو ما أسماه بالانتقاء الجنسي. مثلا الريش الملون لطائر الطاووس وقرون ذكور الغزلان على حد سواء، هي أمثلة لصفات تطورت في ظل هذا النوع من الانتقاء.
لكن داروين لم يكن الأول أو الوحيد الذي تحدث عن نظرية التطور. فقد جاء قبله عالم الأحياء الفرنسي الشهير، جان باتيست لامارك بفكرة أن الكائن الحي يمرر الصفات التي اكتسبها في تأقلمه مع الوسط إلى نسله، الشيء الذي سيتم التأكد من عدم صحته لاحقا، خاصة مع اكتشاف أعمال وقوانين الراهب النمساوي غريغور ماندل في علم الوراثة. ونذكر أيضا، عالم الأحياء البريطاني ألفريد راسل والاس، الذي كان معاصرا لداروين، والذي جاء أيضا بنظرية مماثلة حول تطور الأنواع.
الفهم الحديث للنظرية
لم يكن داروين على دراية بعلم الوراثة. تقول بوبنر”لاحظ داروين نمط تطور الكائنات الحية، لكنه لم يكن على علم بالآلية التي يحدث بها ذلك”. لكن سيُكتشف ذلك لاحقا مع اكتشاف كيفية ترميز المورثات لمختلف الصفات البيولوجية والسلوكية، وكيف تُمرر هذه المورثات من الآباء إلى الخلف. ليتم بعد ذلك التوليف بين علم الوراثة ونظرية داروين للتطور فيما يعرف بـ “التركيبية التطورية الحديثة”.
إن التغيرات الجسدية والسلوكية التي تجعل من الانتقاء الطبيعي ممكنا، تحدث على مستوى جزيئة الحمض النووي DNA. وتسمى هذه التغيرات بالطفرات. وتقول بوبنر بأن الطفرات هي أساسا المواد الخام التي يعمل عليها التطور. وترجع أسباب هذه الطفرات إلى حدوث أخطاء عشوائية خلال عملية مضاعفة أو إصلاح جزيئة DNA، أو بسبب تعرض الخلايا لمواد كيميائية أو للإشعاع. في معظم الأحيان، تكون الطفرات إما ضارة أو محايدة، لكن في حالات نادرة، قد تكون الطفرة مفيدة للكائن الحي. إذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الطفرة المفيدة ستصبح أكثر انتشارا في الجيل اللاحق، لتنتشر فيما بعد داخل المحتوى الجيني للساكنة. بهذه الطريقة، يُوجه الانتقاء الطبيعي عملية التطور، بالحفاظ على الطفرات المفيدة وإزاحة غير المفيدة منها. وتختم بوبنر قائلة: “تحدث الطفرات بشكل عشوائي، لكن انتقاءها ليس كذلك”. وتضيف بأن الانتقاء الطبيعي ليس الآلية الوحيدة التي يتم بها التطور، إذ يمكن نقل الجينات من ساكنة إلى أخرى عند هجرة الكائنات الحية من مكان لآخر، فيما يعرف باسم التدفق الجيني. ويمكن أيضا أن يتغير تردد بعض الجينات تغييرا عشوائيا، داخل الساكنة وهو ما يسمى بالانحراف الجيني.
جدال حول النظرية
على الرغم من وفرة وتنوع الأدلة من السجل الأحفوري، وعلم الوراثة وغيرها من مجالات العلوم، إلا أن البعض لا زال يتساءل عن مدى صحة النظرية. فبعض السياسيين والزعماء الدينيين، يحاضرون ويناظرون بكل ثقة بأن هذه النظرية لا تصلح لتفسير البنية البالغة التعقيد لأشكال الحياة، وخاصة ما يتعلق بالجنس البشري. لكن علماء التيار التطوري لايرون أن هناك تعارضا بين التطور والتصميم الذكي أو الخلق. وتقول بوبنر: “هناك الكثير من الناس لديهم معتقدات دينية عميقة، لكن يقبلون بصحة نظرية التطور، في اعتقادي يمكن أن تكون هناك مصالحة حقيقية بين التيارين”.
نظرية التطور اليوم مدعمة بمجموعة من الأمثلة على حدوث تغيرات في الأنواع المختلفة مع مرور الوقت، مما يؤدي إلى التنوع البيولوجي الكبير والمدهش الذي نراه اليوم. ويختم ريتشموند بقوله: “اذا كان هناك من يمكنه أن يقدم تفسيرا أفضل من التطور عن طريق الانتقاء الطبيعي لهذا التنوع، فهذا الشخص، يستحق أن يكون داروين الجديد”.
المصدر: 1
الصورة: 2
الكاتب: