في الجزء الأول من المقال الذي عنوناه : قليل من كثير عن حياة عبقري ،سنرافق ذاكرة حفيد “إينشتاين” لنكشف النقاب عن حياته وبعضا من مواقفه.
في عام 1938 هاجرت رفقة أبي “هانز البرت” (HANZ-ALBERT) و والدتي “فريدا” (FRIEDA
) و أخي “كلوز” (CLAUSE) إلى الولايات المتحدة الأمريكية بدعوة صريحة و ملحة من جدي، و ذلك لكونه كان يرى أن بقاءنا في أوروبا قد يشكل خطرا علينا. حصل والدي على دكتوراه في الهندسة المائية في عام 1935، ليعمل بعدها كمساعد في مدرسة البوليتكنيك الاتحادية في زيورخ )Zurich in of Technology Institute Federal Swiss(، مقابل أجر ضعيف. لهذا قام جدي بدفع تكاليف السفر.
توافق وصولنا لنيويورك بلوغي سن الثامنة. لم يكن هناك جدي عندما نزلنا من الباخرة، لأنه كان يستفيد من عطلته التي تمتد طوال الصيف، بغية تجنب الجو الحار والرطب في “برينستون” (Princeton). لذلك كان يقضي عطلته في “لونغ آيلاند” (Long Island). ولكن عدم تواجده في نيويورك أثناء وصولنا لم يمنعه من الاعتناء بنا، فلقد بعث بسيارة من نوع “بليموث” (Plymouth) لتقلنا إلى هناك. وهكذا التحقنا بالإقامة الصيفية لجدي.
لم تكن المرة الأولى التي أرى فيها جدي. فلقد رأيته في “كابوت” (Caputh)، ليس بعيدا عن برلين، حيث كان عمري لم يتجاوز سن الثانية بعد. لذلك لا أتذكر سوى أنني ركبت معه على متن قارب شراعي. لقد أحببت جدي منذ اللحظة الأولى لكونه كان يضحك دوما ويحكي الكثير من الطرائف.
كان لجدي عادات نادرا جدا ما يغيرها. كان يستيقظ في الصباح ليتناول فطوره، و كان يلبس دائما بنفس الطريقة و لا يرتدي جوارب قط. بعدما ينتهي من تناول الفطور، يبدأ اللعب على آلة الكمان، في حين تقوم “دوكاس” (Dukas) التي كانت تلعب دور الأمينة والمدبرة بغسل الأواني. .بعدها، حينما تخور قواه من العزف بالكمان، يبدأ اللعب على البيانو. كان يعزف بطريقة رائعة جدا بحيث يترجم بشكل طبيعي و سلس مضمون المقطوعات الموسيقية. لم يكن يضيع وقته في التدرب و التكرار، بل كان يرتجل مقطوعات صغيرة أو كما يقول أحد موسيقيي الجاز: كان يمتلك أذنا موسيقية.
عندما تفرغ “دوكاس” من الأشغال المنزلية، تتوجه برفقة جدي للمكتب من أجل الإجابة على الكم الهائل من البرقيات، الشيء الذي كان يستغرق ساعة كاملة. أتيحت لي الفرصة في “برينستون” لأشاهد ذلك عدة مرات. ما كان يثير جدلي، هو أن جدي كان يجيب على كل
البرقيات، حتى الشاذة والغريبة منها. في بعض المرات كان يفضل التريث والإجابة لاحقا، بعد تفكير ملي و عميق. كانت إجاباته بالغة الوضوح والدقة، ونادرا جدا ما كانت تحتاج للتمحيص و التدقيق.
بعدها كان يتوجه ليمارس ركوب القوارب الشراعية في وقت العطلة. أما في برينستون، فكان يتوجه لمعهد الدراسات المتقدمة (institute for Advanced Study). بعد ذلك يتناول وجبة الغداء مع أحد ضيوفه أحيانا، ما بين منتصف النهار و الساعة الواحدة بعد الظهر. فهكذا تعرفت على كل من البروفيسور “بيرغمان”(bergmann) و البروفيسور “بارغمان”(Bargmann) ، واللذين كانا حسب اعتقادي مساعدي جدي في فترة سابقة. بعد الغداء العائلي، كان دوما يقرأ جريدة : “نيو يورك تايمز” (New York Times)، ثم يعلق على المستجدات السياسية منها و العامة. كانت ملحوظاته المقتضبة في محلها تماما.
بعدها، و من أجل إرضاء حفيده، كان يطرح علي الألغاز. أتذكر جيدا أحدها، حيث كان يتعلق الأمر ببازل متكون من عشرة أجزاء. كان التحدي يتجلى في وضع كل جزء في مكانه المناسب. و في حال عدم توصلي للحل ، يقوم جدي بتفسير الإجابة و كذا طريقة الوصول لها.
كان يتمتع جدي بحس عال من الدعابة، ناهيك عن قدرته المدهشة على كشف المعاني الغامضة والحقائق الخفية. في يوم من الأيام رويت لجدي هذه القصة القصيرة التي استمعت لها في درس الكيمياء، حيث أخبرنا الأستاذ ” أن الفرق الوحيد بين عالم الفيزياء و عالم الكيمياء الفيزيائية يكمن في كون الأول يعد موظفا في قسم الفيزياء في حين يشغل الثاني منصبا في قسم الكيمياء “. كانت الدعابة مضحكة للكل، للأستاذ و لي و لمئات الطلبة الذين كانوا حاضرين يومها. إلا أن جدي لم يستطع استساغتها، فأجابني بنوع من الصرامة والحزم قائلا: “ليس صحيحا البتة”
في يوم من الأيام، حينما كان جدي يقرأ الجريدة كالمعتاد، شعر بالأسف و هو يدرك الوضعية الحرجة التي يمر بها مدير معهد العلوم المتقدمة : السيد “أوبنهايمر” (Robert Oppenheimer).( يعد “أوبنهايمر” على رأس مشروع “مانهاتن” و أب القنبلة الذرية الأمريكية. أدين سنة 1950 بالتعاطف مع الشيوعية و التجسس لصالح الاتحاد السوفياتي). كما يعلم الكل، رفض جدي الخضوع لأوامر ما يمكن ترجمته بلجنة السهر على الأنشطة المعادية لأمريكا (House Un-American Activities Committee)، وكان يردد دوما استعداده الراسخ لعدم تغيير رأيه ولو زج به في السجن. الكل يعلم بالرسالة التي بعثها للرئيس “روزفلت” محذرا فيها بأن ألمانيا تعمل على إنشاء قنبلة ذرية. في البداية، كانت قناعاته الشخصية تمنعه من المشاركة في مشروع العمل على القنبلة الذرية. لذلك كان يعلن رفضه أمام العلن، نظرا للمخاطر التي يضمرها هذا المشروع. و لكنه لم يكن مقتنعا أيضا بفسح المجال لهتلر. لهذا، غير رأيه و شارك فعليا في هذه الحرب. فلقد قام بأعمال مهمة لصالح مختبرات البحرية الأمريكية في “شاينا ليك” بـ “كاليفورنيا”. و هم يحتفظون ليومنا هذا بلوحة تخليدا لذاكرته.
بعد الفراغ من وجبة الغداء يتوجه لغرفته من أجل أخذ قيلولة قصيرة، ليعود بعد ذلك للمعهد سيرا. فلقد كان يرفض رفضا قاطعا استخدام السيارة. و في حالة استعصى الأمر و استوجب سيارة، كان جدي يلجأ لأصدقائه.
المصدر: Science et Avenir N°806
ترجمة: سعيد الفراشي
التدقيق اللغوي: علي توعدي
الكاتب:
المدقق اللغوي: