المغرب العلمي

نظرية التطور (الحلقة الرابعة): الدليل الوراثي (2)

وفرت دراسة الجزيئات البيولوجية شكلا جديدا من الأدلة حول الآليات والمسارات التاريخية للتطور، وقد أكدت هذه الأدلة الجديدة الاستنتاجات المستخلصة من السجل الأحفوري والتوزيع الجغرافي للأنواع. بالإضافة إلى ذلك فقد قدمت ثورة من المعلومات الجديدة حول العلاقات التطورية بين الأنواع و كيفية حدوثها. وسنتطرقفي هذا المقال لبعض الأمثلة على التماثل الجزيئي أو الوراثي بين الكائنات، و كيف أن الشفرة الوراثية وآلية عملها مشتركة بين العديد من الكائنات الحية، مما يدعم فرضية الأسلاف المشتركة.

Rosalyn Schanzer

الجينوم البشري يوثق تاريخ الشفرة الوراثية

    أكدت دراستان، نشرتا في فبراير 2001 عن مشروع تسلسل الجينوم البشري،  أن الانسان يملك أكثر من ثلاثين ألف مورثة، ترمز للبروتينات، وعند دراسة نسبة هذه المورثات البشرية لدى مجموعة من الكائنات الحية نجد هناك تشابها، فمثلا يتشارك الانسان حوالي 21 % من مورثاته مع جميع أشكال الحياة الخلوية، وتسمى بالمورثات المنظمة للآلية الخلوية الأساسية. عند مقارنة أقدم خلايا يقدر عمرها ب 3000 إلى 3400 مليون سنة، نجد أن هذه المورثات قد تطورت على الأقل منذ ذلك الوقت، ومعظم هذه المورثات تتطور ببطء ويتم نسخها  لملايير السنين مع تغييرات طفيفة، مثل مورثة الهيستون الموجودة منذ 3,5 مليار سنة.

    يتشارك الانسان حوالي 32 % من المورثات مع جميع حقيقيات النواة (eukaryotes)، و حوالي 24 % مع الحيوانات، من بين هذه المورثات، نجد المورثات المسؤولة عن نمو الجسد وبنيته وتسمى بالمورثات Hox (سنتحدث عنها لاحقا). بينما يتشارك البشر مع الفقاريات حوالي 22% من المورثات التي يبلغ عمرها 500 أو أكثر من مليون سنة، وتشمل هذه المورثات تلك المسؤولة عن الجهاز المناعي والهضمي، في حين أن 1% أو أقل من المورثات البشرية التي لا توجد لدى أي كائن أخر.

    كشف مشروع الجينوم البشري عن أمثلة مثيرة لكيف تم الحفاظ على هذه المورثات خلال مسار التطور – والمورثات التي تؤدي بعض الوظائف لدى الحيوانات الدنيا أو البدائية تم الحفاظ عليها حتى في سيناريو الحمض النووي البشري -، رغم بعض التعديلات لأجل وظائف أكثر تعقيدا. هذا الخيط من التشابه الجيني يربط بيننا وما يقارب من 10 ملايين نوع في العالم الحديث وبين التاريخ الكامل للحياة، رجوعا للسلف المشترك الأول منذ أكثر من 3,5 مليار سنة.

الشفرة الوراثية لدى الإنسان والرئيسيات العليا :

   لقد تم العثور على العديد من المورثات لدى أغلب الكائنات الحية تقريبا، على سبيل المثال، المورثات التي ترمز للهيستونات، وهي البروتينات التي تساعد الحمض النووي على أخذ شكل معين داخل الخلية، وتوجد لدى الطحالب والفطريات وذبابة الخل، والبشر وجميع الكائنات الحية الأخرى. ومن الكائنات الحية التي تشترك في العديد من جوانب البنية والوظيفة، نجد البشر والشمبانزي، حيث يتقاسمان العديد من المورثات.

    عند مقارنة عشرات تسلسلات المورثات الموجودة لدى البشر والرئيسيات الأخرى، نجد أن هناك علاقة بين تصنيف وتشابه هذه التسلسلات، وتصل نسبة تشابه تسلسل الحمض النووي لهذه المورثات بين البشر والشمبانزي إلى 99,01 %، في حين تصل هذه النسبة إلى 98,9 % بين البشر والغوريلا. والأكثر تباعدا من ناحية القرابة هي أقل مماثلة في التسلسل، هذا النمط في تشابه تسلسل المورثات يتطابق تماما مع العلاقات البيولوجية التي تعتمد على التشابه الجسدي في هذه المجموعة، وهذه النتيجة تدعم مسألة الأصل المشترك بين الرئيسيات.

الصبغي البشري (2) والتطور.

     أشرنا سالفا أن نسبة تشابه الشفرة الوراثية بين الإنسان والرئيسيات العليا قد عززت فرضية السلف المشترك بينهما، لكن عند مقارنة عدد الصبغيات لدى الانسان مع باقي الرئيسيات نجد أن هناك اختلافا، فالإنسان يملك 46 صبغي، في حينتملك القردة العليا  48 صبغي. وهنا يطرح التساؤل، إذا كان هناك سلف مشترك بين الانسان والقردة العليا فينبغي أن يكون لهم نفس عدد الصبغيات؟

    خلال الثمانينات، قام علماء الأحياء التطورية بمقارنة الصبغيات لدى كل من الانسان والشمبانزي والغوريلا والأورانغ كما هو موضح في الصورة أسفله.

 

الخريطة الصبغية  للانسان والشمبانزي والغوريلا والأورانغ

فكشفت عن درجة استثنائية من التشابه بين صبغيات الانسان والشمبانزي، لكن اختلاف عدد الصبغيات ومقارنة الصبغي البشري رقم 2 مع الصبغيان 2Aو 2B لدى  الشمبانزي، مكنت من وضع فرضية اندماج هاذين الصبغيين لدى الشمبانزي لتشكيل الصبغي البشري رقم 2.

 

توضح الصورة الصبغي رقم 2 عند الانسان ومماثلاه لدى الشمبانزي

     في دراسة تمت سنة 2005، أظهرت أن الصبغي البشري رقم 2 ناتج عن اندماج صبغيين، في حين أنهما بقيا منفصلين لدى باقي الرئيسيات. وقد اعتمدوا على عدة أدلة لإثبات هذه الفرضية، من بينها دراسة ومقارنة بنية الصبغيات لدى الانسان والقردة العليا. وتمتلك كل الصبغيات – باستثناء الصبغي 2-  بنية مشتركة، بحيث نجد في نهاية كل صبغي ما يسمى بالتيلوميرات وفي مركزه نجد القسيم، لكن عند ملاحظة الصبغي رقم 2 نجد أن هناك التيلومير في المركز واثنين من القسيم، مما يدل على أنه ناتج عن اندماج صبغيين.

 

     وفرت دراسة الجزيئات البيولوجية شكلا جديدا من الأدلة حول الآليات والمسارات التاريخية للتطور، وقد أكدت هذه الأدلة الجديدة الاستنتاجات المستخلصة من السجل الأحفوري والتوزيع الجغرافي للأنواع، وملاحظات أخرى. بالإضافة إلى ذلك، فقد قدمت ثورة من المعلومات الجديدة حول العلاقات التطورية بين الأنواع وعن كيفية حدوثها. كما مكنت من فهم ودراسة العمليات البيولوجية الهامة لحياة الإنسان، إضافة إلى كون الكثير من البحوث الطبية والحيوية  اليوم تستند على دراسة القواسم البيولوجية المشتركة لجميع الكائنات الحية.

المصادر:

  1. Regulating Evolution: http://www.scientificamerican.com/article/regulating-evolution/
  2. Unity of Life: http://www.pbs.org/wgbh/evolution/library/10/2/text_pop/l_102_01.html
  3. Ridley. M. (ed.) (2004). .-Evolution. Edition-Blackwell Science Ltd. ISBN 1-4051-0345-0
  4. International  Human  Genome  Sequencing  Consortium  (2001).  Initial sequencing  and analysis of the human genome. Nature 409, 860–921. http://www.nature.com/nature/journal/v409/n6822/full/409860a0.html
  5. Science, Evolution, and Creationism  http://www.nap.edu/catalog/11876.html
  6. Tiny Genetic Differences between Humans and Other Primates Pervade the Genome : http://www.scientificamerican.com/article/tiny-genetic-differences-between-humans-and-other-primates-pervade-the-genome/
  7. The Common Genetic Code: http://www.pbs.org/wgbh/evolution/library/04/4/l_044_02.html
  8. The origin of man: a chromosomal pictorial legacy : http://www.ncbi.nlm.nih.gov/pubmed/7063861
  9. Generation and annotation of the DNA sequences of human chromosomes 2 and 4- http://www.nature.com/nature/journal/v434/n7034/full/nature03466.html