نظرية التطور، المغالطة 2 : القرد أصل الإنسان
غالبا ما يساء فهم علاقتنا بالقرود في السلم التطوري، فأكبر المغالطات التي ارتبطت بتطور الجنس البشري هو ربطه بطريقة مباشرة بالقرود عن طريق القول أن هذه النظرية تدعي انحدار الجنس البشري من الشمبانزي أو غيره من القردة. و لعل أبرز الأمور التي ساهمت في ترسيخ هذه الفكرة هي الصورة الأشهر للتطور البشري التي يظهر فيها القرد وهو يتحول إلى إنسان قائم، بالإضافة إلى العديد من الاراء المغلوطة عن النظرية الواردة في العديد من الكتب وبعض الوثائقيات غير العلمية، إضافة بطبيعة الحال إلى التناقض الظاهر بين ما يقوله التطور وتأويلات النصوص الدينية في العديد من الديانات. وسيحاول هذا المقال تصحيح هذه المغالطة ويبين العلاقة التي تربطنا بالقردة العليا اعتمادا على نتائج اخر الأبحاث العلمية المنشورة في أبرز الدوريات العلمية.
تحدث داروين في كتابه “أصل الأنواع”، الكتاب المؤسس لنظرية التطور، عن كل شيء تقريبا بخصوص تطور الكائنات الحية عن طريق الانتقاء الطبيعي، إلا أنه لم يأتي على ذكر موضع الإنسان من هذا التطور. وقد كان من الواضح أن النظرية كانت تتجه إلى اعتبار الإنسان ينحدر من نفس الخلية الأولى شأنه شأن جميع الكائنات الحية. وتعتبر هذه النقطة بالذات، نقطة محورية في علاقتنا بنظرية التطور. فالأغلبية الساحقة الرافضة للتطور تستمد رفضها من المنظور الديني للتكون البشري والذي يبدو مختلفا عن الفكرة التي أتت بها نظرية التطور.
فحسب نظرية التطور، يشترك النوع البشري مع القرد في سلف مشترك عاش قبل ملايين السينين. وإذا كانت الصورة الأكثر إنتشارا لنظرية التطور تظهر الإنسان وكأنه ينحدر من قردة (الصورة أعلاه) فإن هذه الصورة تعد نوعا ما مغالطة لما جاءت به النظرية حيث تساهم في إساءة فهم فكرة التطور، حين تظهر الإنسان كامتداد تطوري لفصيلة القردة في حين أنه واحد من القردة العليا. فنحن لا ننحدر من فصيل القردة بل نشترك مع القردة الأخرى في العديد من الصفات.
خلال سنوات عديدة، أثير جدل كبير وسط التطوريين حول علاقتنا الفعلية بالقردة وأي من القردة الإفريقية هي أقرب إلينا من الناحية التطورية. وتجمع أغلب الأبحاث العلمية على أننا نتشارك علاقة أكثر حداثة مع الشمبانزي والبونوبو مقارنة مع الغوريلا (Ruvolo 1997، تشن ولي 2001).
وقد عُزز هذا التوافق من خلال المقارنات الأولية للمادة الوراثية لكل من الشمبانزي والإنسان (كونسورتيوم 2005). وعند مقارنة المادة الوراثية، في المناطق التي يمكن مقارنتها بطريقة مباشرة، فإن الإنسان يتشارك مع الشمبانزي وقردة البوبونو نسبة 99% من هذه الخريطة، بينما يتشارك مع الغوريلا نسبة 98% و مع الإنجتون (إنسان الغاب) نسبة 97%.وقد أُجريت مؤخرا مقارنات تفصيلية دقيقة بين الخرائط الوراثية الكاملة لكل هذه الأنواع، ونشرت هذه الأبحاث في مجلة نايتشر، وبناءا على هذه الأبحاث فيمكن القول أن عملية تكوين أنواع جديدة أي انفصال سلف الإنسان والشمبانزي/ البونوبو – الغوريلا كانت معقدة جدا، ويمكن الاطلاع على الدراسة العلمية المفصلة لمقارنة الخريطة الوراثية لكل من الإنسان والشمبانزي والبوبونو والغوريلا على روابط المقالات (1) و (2) و (3). خلاصة هذه الدراسات العلمية هي كون الشمبانزي أقرب أقربائنا التطوريون، وقد وقع الانفصال على المستوى الوراثي بين سلف البشر و سلف الشمبانزي قبل مدة تتراوج من 4 إلى 6 مليون سنة.
ومن المعلوم أن هناك تقارب كبير بين الخريطة الوراثية للانسان ومثيلاتها عند كل الكائنات الحية بما في ذلك الفئران (6) والزواحف وغيرها من الكائنان الحية. عموما فإن علم الوراثة الحديث، والذي وضع أسسه غريغور ماندل سنوات بعد ظهور نظرية التطور، قد ساهم في تأكيد الكثير من النقط التي ذكرتها النظرية خاصة في الشق المتعلق بالتقارب الوراثي بين الأنواع وتواريخ الانفصال، إلا أن العديد من النقط مازالت تستدعي دراسات معمقة حول اليات هذا الانفصال ودوافعه. فحسب كيفن لالاند، فإن نظرية التطور تحتاج إلى إعادة تفكير عاجلة حول العمليات التي يجب اعتبارها أساسية في الالية التطورية، وطرق عمل التطور (7). هذا الإختلاف البسيط في تركيبة الحمض النووي DNA على المستوى المجهري كان له بالغ الأثر على المستوى المظهري. فتغييرات بسيطة على مستوى جزئية الـ DNA العملاقة جعلتنا نمشي على قدمين، وأعطتنا القدرة على إرسال قردة إلى الفضاء، وإرسال مركبة أبوللو إلى القمر ومركبة كيريوزتي إلى المريخ ومسبار فوايجر إلى خارج المجموعة الشمسية. هي مهمات أصبحت من اختصاص النوع البشري من بين كل الأنواع الأخرى، وسيستمر النوع البشري في تبوء مركز الريادة والتربع على قمة السلم التطوري، لاسيما أن أقرب أقربائنا التطوريين مازال في بدايات العصر الحجري الخاص به.
المراجع:
1. مقارنة المادة الوراثية لقردة البوبونو و الشمبانزي مع مورثات الإنسان، مجلة نايتشر 2012
2. دراسة تطور اسلاف البشر اعتماد على ضوء تسلسل المادة الوراثية للغوريلا، مجلة نايتشر 2012
3. دراسة أنماط فرز النسب غير المكتملة بين البشر، الشمبانزي، وانسان الغاب ، دوربة جينوم روسرتش 2011
4. مقارنة المادة الوراثية للانسان و الشمبانزي، دورية جينوميك ، 2005
5. مقارنة أولية للمادة الوراثية للانسان و الشمبانزي، دورية نايتشر،2002
6. دراسة و تحليل المادة الوراثية لدى الفئران ، مجلة نايتشر، 2002
7. هـل تحتـاج نظريــة التطـور إلى إعـادة تفكيــر؟، مجلة نايتشر 2014