في خضم حديثنا عن تاريخ و نشأة علم الكيمياء، تطرقنا في مقالاتنا السابقة الى أهم الحضارات التي ساهمت في ظهور هذا العلم، حيث جاءت الخيمياء إلى الوجود في الغرب ودلك في العصر الهلينستي، و لم تظهر كتابات الخيميائيين الهلينستيين أنفسهم إلا في عديد من بقايا المخطوطات التي يحمل معظمها أسماء شخصيات أسطورية أو شهيرة مثل هرمس و إيزيس و كليوباترا، و يحتمل أن تكون أقدم هذه الكتابات باسم ديموقراطيس، اد يؤرخ لها بالسنوات الأولى من القرن الأول بعد الميلاد. و يعتبر زوسيموس الناپولي شخصية مهمة، حيث ألف عام 300 ميلادية تقريبا موسوعة الخيمياء التي تقع في 28 جزء أهداها إلى أخته ثيوسيبيا.
تُرجم عدد كبير من الكتابات الإغريقية إلى اللغة العربية، و يتضح في العديد من المراجع الموجودة لأعمال الخيميائيين أن المسلمين كانوا على دراية بالأعمال الاغريقية، و بالتالي اعتبارها عاملا مؤثرا في الخيمياء الإسلامية دون الجزم أن الإغريق هم المصدر الوحيد لها. فقد كانت الخيمياء البدائية الهليستية تعدينية أساسا، بينما ٱقترنت الخيمياء الإسلامية بنظيرتها الصينية في الطبيعة الطبية لصنعتها و استغراقاتها. و قد ظهرت أفكار إطالة العمر في كتابات جابر بن حيان و في أعمال خيميائيين آخرين، و أغلب الظن أنهم ٱستوردوها من الصين، حيث أنها السمة المميزة للخيمياء الصينية مند قرون قبل الميلاد. رغم أنه لم تعرف أعمال صينية مترجمة في القرون المبكرة للإسلام، إلا أن العلاقات التجارية بين الحضارتين قد تكون المساهمة في تبادل المعلومات و الإرساليات بين الجانيبين، على غرار ما عُرف في مجالات أخرى كصناعة الورق و أساليب ضرب الحصار.
و مع ٱحتمال وجود علماء قدامى نشطوا في هذا المجال، فإن أهم اسم في الخيمياء الإسلامية كان “جابر بن حيان” المعروف في الغرب باسم “جبر Geber”، و الذي طرح أفكارا تميزت عن تلك التي طرحها أسلافه الهلينستين. وأولى هذه الأفكار نظرية الزئبق و الكبريت، حيث يعتقد أن الزئبق به من عناصر الماء و التراب، بينما يحتوي الكبريت على النار و الهواء، و لهذا تحتوي المادتان على العناصر الأربعة. و عندما يُخلط الزئبق بالكبريت، و يدخلان في مركب متماسك، فإن الحرارة تولد عملية الإنضاج و الطبخ التي تؤدي الى أنواع من الفلزات المختلفة. إذا كان الزئبق نظيفا و الكبريت نقيا، و إذا كانت الكميتان بنسبة العلاقة المثلية بينهما، و إذا كانت الحرارة بالدرجة المناسبة، ينتج الذهب الخالص. بينما إذا دخلت البرودة قبل الإنضاج تنتج الفضة، وإذا دخل الجفاف ينتج النحاس الأحمر. و بقدر ما تتدخل عوامل مفسدة أكثر، تقل جودة الفلزات الناتجة.
و مع أن النظرية المذكورة أعلاه ظهرت لأول مرة في الأعمال الجابرية، إلا أنها تختلف في جوهرها مع تلك النظريات التي سبقت الإشارة إليها في مقالاتنا السابقة، غير أن هذا لا ينفي طرحه لنظريات لا تمثل ٱنحرافا جدريا عما طُرح في العصور القديمة. فقد كانت “نظرية الميزان” دات طبيعة تأملية عالية، و فيها حاول الخيميائي تحديد ٱتزان الطبائع الأربعة في أي مادة، و ٱستخدام نظام الإعداد السحري (العِدادة Numerology) المعقد بالاتحاد مع الأبجدية العربيية المؤلفة من 28 حرفا لتقدير نسبة الطبائع في المادة. فقد كان يتم تحديد قيمة الميزان بتخصيص قيمة عددية لكل من الأبجدية و مطابقة هذه القيم بحروف اسم المادة، و من ثم يمكن حساب نسبة الطبائع الأربعة في هده المادة. و بمعرفة هذه النسب طبقا للنظرية فإنه يمكن ضبطها للحصول على مواد أخرى.
كما أن فكرة الإكسير الذي تمن ٱستخدامه كعلاج أو كقوة مانحة للحياة، كما تمت الإشارة إلى ذلك في مقالنا السابق، ظهرت لأول مرة في كتابات جابر بن حيان. هاته المادة التي يمكن تحضيرها من مواد حيوانية أو نباتية أو معدنية، ويمكن ٱستخدامها لإطالة الحياة أو تعاطيها كعلاج للمرضى اليائسين من الشفاء.
الاسم العظيم الآخر في الخيمياء الإسلامية هو “أبو بكر محمد بن زكرياء الرازي”، وهو مشهور بكونه طبيب و معلم و صاحب مهنة، لكنه أولى ٱهتمامه أيضا بالفلسفة و المنطق و الميتافيزيقا و الشعر و الموسيقى و الخيمياء، حيث صنف عددا من الكتب الخيميائية بعضها لا يزال موجودا، و تشمل كتابه المهم في هذا الموضوع و الدي بعنوان ” كتاب الأسرار”. فمن خلال كتاباته، كان الانطباع الغالب أن الرجل له مقدرة عقلية فائقة، ٱهتمت بالخيمياء العملية أكثر بكثير من النظرية منها. فهو لم يقبل نظرية الميزان التي طرحها جابر، و لم يناقش إكسير الحياة، و لم ينشغل بالتأمل في المعنى الخفي للخيمياء. و ٱعتقد، مع الكتاب الهلينستيين، بأن جميع المواد تتألف من العناصر الأربعة، و لهذا يمكن تحول الفلزات، حيث هدف الخيمياء هو إحداث هذه التحولات بواسطة الإكسيرات، أو تحسين الأحجار العديمة القيمة مثل الزجاج بواسطة أكاسير مناسبة و تحويلها إلى أحجار كريمة. و قد وافق “الرازي” سلفه جابر بن حيان في القول أن مكونات المعادن هي الزئبق و الكبريت، إلا أنه ٱقترح إضافة مكون ثالث دي طبيعة ملحية.
و على الرغم من مواصلة تأليف الكتب التي تهتم بالخيمياء في العصر الإسلامي حتى القرن الخامس عشر ميلادي فصاعدا، إلا أنه لم تضف إلى أعمال جابر و الرازي مؤلفات كثيرة ذات أهمية في الجانبين الخفي و العملي للموضوع. وقد كان أحد الكتب الأكثر أهمية هو ذاك الكتاب الذي صنفه في اسبانيا أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، مؤلف يدعى أبو القاسم مسلمة بن أحمد القرطبي (950-1008)، و الذي لقب ب “المجريطي” لكونه عاش فترة طويلة في مدريد، و نسب إليه عملين مهمين في الكيمياء هما “رتبة الحكيم” و “غاية الحكيم”، هذا الأخير الذي تمت ترجمته إلى اللغة الإسبانية سنة 1256م بأمر من الملك ألفونس، ثم تُرجم بعدها إلى اللاتنية.
إذن، كان للمسلمين أيضا دور مهم في تطور هذا العلم من خلال أفكارهم و أعمالهم و نتائج تجاربهم، ذكرنا هنا عينة من كبار الشخصيات التي ساهمت في هذا المجال و في مجالات أخرى، إلا أنه و بلا شك هناك أسماء أخرى كان لها نصيب في تطور هذا العلم و علوم أخرى، و التي لن تخفى على الباحث المهتم بهذا الموضوع.
و بهذا، نكون قد أنزلنا الستار على رحلتنا عبر التاريخ، من العصور القديمة حيث عاش الإنسان البدائي، مرورا بحضارات ما قبل الميلاد إلى ما بعده، تطرقنا من خلالها لكيفية ظهور و نشأة علم الخيمياء، من هم المساهمين في ذلك؟ النظريات و الأفكار التي بُنيت عليها أعمالهم؟ إلى أن تطرقنا للحديث عما ساهم به المسلمون في تطور هذا العلم؟
نتمنى أن تحمل مساهمتنا هذه أجوبة لأسئلة كثيرة تحوم حول أصول الخيمياء، فحري بالذكر أن التطرق للموضوع هو فقط مدعاة للبحث و التعمق في كل المعلومات التي قدمناها لمتابعينا الكرام، حيث حاولنا الالتزام بالدقة و الموضوعية في الاعتماد على المراجع و نقل المعلومات. و إلى تاريخ علم جديد، لكم منا أطيب المنى.
اعداد: محمد ماخا/تدقيق لغوي: مريم السهلاوي