تحدثنا في المقالين السابقين عن أصول الكيمياء، و كيف ساهمت حضارات و أمم في مسار نشأته و تبلور فكر الخيمياء. و حتى نناقش الأفكار التي أدت إلى نمو الفكر الخيميائي، ينبغي القيام بمحاولة ذكر و شرح، قدر المستطاع، أهم المفاهيم و النظريات التي ساهمت في ذلك. فقد صاغ الكثير من الفلاسفة رغم أنهم ليسوا بخيميائيين نظريات ٱعتبرت إلى حد بعيد أساس الخيمياء، من بينها تلك المعروفة ب “نظرية العناصر الأربعة”، و التي سنحاول عرض كرونولوجيا تطورها منذ بداياتها إلى أن وصلت إلى الصيغة الأخيرة التي طرحها أرسطو.
لقد ظهرت أول النظريات حول المادة و تكويناتها زمن الإغريق و الهندوس، و مع ذلك ترجع الكثير من الكتابات الفلسيفة حول هذا الموضوع إلى الإغريق نظرا لكمية المعلومات التي تُوُفرت و التي ترجع للعهد الإغريقي. معظم هاته الكتابات تتفق بشكل كبير على إمكانية تحويل المواد إلى أخرى، فقد لاحظوا تغيرها بفعل درجة الحرارة و قارنوا ذلك بالعمليات البيولوجية، فآمنوا مثلا أن هضم الحيوانات لطعامها هو نتيجة لعملية طبخ تحدث على مستوى المعدة. إلا أن كل الأفكار التي تخص تحول المادة ضلت حبيسة النظرية و كثيرا ما لا تتعداه لمرحلة التجريبة.
و عودة لأصل الأمور، وفي القرن السادس قبل الميلاد، طرح Thales (تاليس) (526ـ624 ق م) فكرة ٱعتبار الماء المكون الأساسي للمادة، إلا أنه كان ل Anaximenes (اناكسيمنس) (524ـ585 ق م) رأي آخر، حيث ٱعتبر الهواء المكون الأساسي للمادة، إضافة إلى أيمانه بإمكانية تحوله لصور أخرى كالنار و الريح و المطر والصخر. بعدها بسنوات طوال، جاء Heraclitus (هيراكليتس) (544ـ484 ق م) ليقول أن النار هي المكون الأساسي الذي يدخل في تكوين كل شيء.
و دائما في القرن الخامس قبل الميلاد، ظهرت المفاهيم الأولية للعناصر الأربعة من قبل Empedocles (إمبيدوكليس) (432ـ492 ق م) التي أدت لظهور لنظرية العناصر الأربعة التي نحن بصدد الحديث عنها، النظرية التي هيمنت على مفاهيم العلوم لما يقارب 2000 سنة. هاته النظرية تعتبر أن المادة تتكون أساسا من العناصر التالية: التراب و الهواء و النار و الماء، هذه العناصر و التي إن جمعت بنسب معينة محسوبة تؤدي لتكون المادة، إلا أن الجمع بينها تحكمه أساسا حالات الجدب و النفور بينها.
إلا أن الظهور الأول لنظرية الذرات كان من قبل Leucippus (ليوكيبوس) في القرن الخامس قبل الميلاد و Democritus (ديموقريطس) (370ـ460 ق م)، حيث ٱعربا عن ٱعتقادهم بأن جميع المواد تتكون من جسيمات صغيرة غير قابلة للتجزئة تسمى الذرات، هاته الجسيمات المتشابهة و التي تختلف فقط في شكلها و حجمها و كتلتها و موضعها. و صرحا أيضا أن هاته الذرات تتواجد في الفضاء و يفصل بينها الفراغ، و الذي بسببه تتمتع بالقدرة على الحركة.
و بعد كل هذه الأفكار و الأطروحات جاء أفلاطون (347ـ427 ق م) ليجمع نظرية العناصر الأربعة بما ٱقترحه بيتاغورس بخصوص تمثل المادة في أشكال هندسية، فاقترح نظرية مفادها أن العناصر الأربعة، أي التراب و النار و الهواء و الماء، تتكون من ذرات تتخد أشكالا معينة. و قال أفلاطون الذي كان هو الٱخر يؤمن بنظرية التحول، أن المرور من الشكل الهندسي الذي تتشكل فيه الذرات إلى تركيبات هندسية أخرى هو ما يؤدي إلى تحول المادة، و بالتالي التحكم في منحى تحول التركيبات الهندسية من شكل لآخر يؤدي للتحكم في مسار تحول المادة.
إلى أن جاء أرسطو (322ـ384 ق م)، فطور نظرية أستاذه أفلاطون، فأجزم بتكوين جميع المواد من العناصر الأربعة، إلا أنه تحدث عن تميز المواد بعضها عن بعض “بطبائعها” و هي الرطب و الجاف و الحار و البارد. و يتكون كل عنصر من إتحاد اثنين من هذه الطبائع:
النار = حار + جاف
الهواء = حار + رطب
الماء = بارد + رطب
التراب = بارد + جاف
و لا توجد أي العناصر الأربعة غير قابل للتحول، فهي تتحول ببعضها إلى بعض خلال وسط من إحدى الطبائع المشتركة، فالنار يمكن أن تصبح هواء خلال وسط من الحرارة، و الهواء يمكن أن يتحول إلى ماء خلال وسط من الرطوبة، و هكذا. و حيث أن كل عنصر يمكن أن يتحول ألى أي نوع آخر عن طريق معالجته بحيث تتغير نسب عناصره لتوافق نسب العناصر الموجودة في المادة الأخرى، و يعود إلى هذا المفهوم تقريبا مئات عديدة من وصفات الخيميائييين.
لقد عولجت مادة أو أكثر بطرق كيميائية مثل التشويه (التحميص)، أو التكليس، واستخدمت مادة عرفت باسم “حجر الفلاسفة” أو “الإكسير” مؤلفة من مجموعة من المواد. تحويل هذه المادة و تطبيقها على المواد لتحويلها يتطلبان عمليات خيميائية معقدة، و كان إجراء العمليات يجري أحيانا تحت تأثيرات خارجية (ما يسمى الكواكب الميمونة)، و إذا ما تم تنفيد كل شيء بدقة، فلسوف ينتج الذهب الخالص، و هذا ما سيكون موضوع مقالنا المقبل بحول الله.