كيف انتقلت المعرفة الإسلامية إلى الغرب -خاتمة-؟
هكذا إذن نأتي على ختام سلسلتنا عن انتقال المعرفة الإسلامية إلى الغرب، سلسلة عرضنا من خلالها الطرق التي سلكتها المعرفة لتصل إلى الغرب، ليستخدموها ويطوروها، معرفة شملت جل المجالات، عرضنا أمثلة كثيرة تهم الرياضيات والفيزياء والكيمياء والفلك والهندسة. واهتماما منا بآراء وتعاليق وانتقادات متابعي المجتمع العلمي المغربي الأفاضل، ارتأينا تخصيص هذا المقال الأخير للإجابة على بعض الأسئلة والملاحظات، وننزع بعض اللبس الذي من الممكن أن ينجم عن الحديث عن هذا الموضوع وخلفياته المختلفة. فكما ذكرنا في المقال المقدمة لهذه السلسلة، الحديث عن المعرفة الإسلامية ليس في حد داته ربطا أو نسبا للمعرفة لفئة أو لإيديولوجيا معينة، وإنما استعراض لدور كان قد لُعب في وقت ما وكان مهما جدا إما في اكتشاف أو تطوير أو نقل معارف وعلوم تهم مناحي حياة الإنسان على مر العصور.
فالمتمعن في واقع المعرفة اليوم، سيدرك حتما سيطرة ثقافة القطب الواحد، فأصبح العالم يسير بسرعات مختلفة، لا يملك حيالها المسلمون سوى السير خلف الركب ليصبحوا بذلك مستهلكين للمعرفة من الدرجة الأولى بعد أن كانوا أحد أعمدة بنائها، رغم أنه من الواجب الإشارة لنسبية الظاهرة لوجود محاولات هنا وهناك تحاول جاهدة أن تجد لها موطئ قدم في ركب الدول المنتجة للمعرفة. فهذا التدني راجع لأسباب قد يكون أهمها مرتبطة لغياب الوعي لأهمية العلم والمعرفة في بناء المجتمعات، فحينما تعي أمة بذلك عملت على إيجاد الموارد والظروف لبناء معرفة ستكون الأساس لنهضة وتنمية حقيقيتان. أما السبب الآخر، والذي لا يمكن إهماله في تشخيص الوضع، غياب الثقة في القدرة على تحقيق نهضة علمية، وحالة اليأس التي تعيشها الشعوب نتيجة لأسباب فيها ما هو ٱقتصادي واجتماعي وسياسي. فالغرب اليوم هو من أكثر المهتمين أكثر من أي وقت مضى بتاريخهم و ثراتهم العلمي، فكُرست أقسام بحالها في الجامعات ورصدت ميزانيات كبيرة لإنشاء معاهد ومراكز خاصة للبحث في التاريخ عموما، وتاريخ المعرفة على الخصوص. فإن كان هناك دور قد يذكر لمثل هذه المبادرات، سيبقى الأهم هو الإدراك بأن حضارات الأمم تقاس بمقدار تقدمها في ميادين العلوم، هذا التقدم الذي تستمده من تاريخها و ثراتها العلميين، فأمة لا تاريخ لها لا مستقبل لها.
و في هذا الإطار بالذات، عملنا من خلال هذه السلسلة و مقالات أخرى قبلها على إبراز جزء يسير من التاريخ والثرات العلميين للمسلمين، أبرزنا من خلالها ما استطاع العلماء المسلمون تطويره من معرفة أضحت، في بعض حالاتها، أحد جذور انبعات النهضة العلمية في الدول المتقدمة اليوم. فقد كان لزاما علينا إبراز المراحل التي مرت فيها تلك العلوم وأصولها ورجالاتها، حتى لا يجتمع تهميش المسلمين لتاريخهم وجهلهم به، بتجاهل بعض المؤسسات العلمية الغربية للدور الإيجابي و الهام الذي لعبه العلماء المسلمون في بناء الحضارة الإنسانية، لينسف تاريخ حضارة بكامله، فالأمانة العلمية تقتضي في كل حال من الأحوال أن تنتسب الفضائل و الإنجازات لأصحابها الحقيقيين، كيفما كان مذهبهم و لغتهم و دينهم، لأن الحديث عنها ليس ٱنحيازا أو ربطا حصريا للمعرفة لفئة ما، بقدر ما هي أمانة في سرد الحقائق لا أقل و لا أكثر.
لقد كان للمسلمين دور كبير في بناء النهضة العلمية الإنسانية، الحديث عن هذا الدور يقوي الثقة بأن التخلف عن ركب التقدم العلمي ليس قدرا محتوما، و إنما واقع لزم الخروج منه عندما تبلغ ثقتنا بما نستطيع المساهمة به في بناء المعرفة، مدى أكبر، لذلك وجب التأمل و الرجوع للتاريخ، لأن لنا فيه الإشارة بأن العجز دخيل فقط، كما لنا فيه المثال و القدوة و المنهاج و الطريقة.
نأتي على ختام سلسلتنا، ملاحظاتكم وتعقيباتكم مرحبا بها دوما، فالمجتمع العلمي المغربي ما هو إلا منصة تعرض منه الأفكار باختلاف تلاوينها، والهدف دائما هو المساهمة قدر المستطاع في تحقيق نهضة علمية و فكرية عبر طرح الواضيع وإعطاء الفرصة لمناقشتها والخوض فيها. لكم منا التحية والسلام، رمضان مبارك كريم.