ما سر وفاء الكلاب للإنسان ؟ (الجزء الثاني)
هل قام البشر بتربية الكلاب الوفية بشكل انتقائي ؟
أظهرت الدراسات أنه إذا تم تقديم مهمة مستحيلة للكلاب، فإنها ستحاول أولا تنفيذَها قبل أن تعود للتحديق بسرعة في مالكيها، كما لو أنها تطلب منهم المساعدة. من ناحية أخرى، إذا تم تقديم نفس المهمة للقطط فإنها ستواصل محاولة تنفيذها دون الاكتراث لأصحابها. لهذا تعتبر القطط دائما مستقلة في طبعها.
فهل هي حقيقة أننا قمنا بتدجين الكلاب لدرجة أنها أصبحت في أمس الحاجة إلينا؟
إن كان الجواب لإطعامهم وإيوائهم ومساعدتهم على حل المشاكل، فهذا شيئ محتَمَل. لكنه لا يفسر كيف طور الكلاب مثل هذه المهارات البشرية والاجتماعية التي تجعلنا نثق بحق أنهم يهتمون بنا بالفعل.
من المعلوم أن الكلاب تستطيع بشكل كبير فهم الأدلة والتعليمات التي يقدمها لها أصحابها. فعلى سبيل المثال، من الممكن أن تملأ وعاءً غير شفاف بالطعام، ثم تسأل كلبك عن مكانه. فإذا أشرت إلى الحاوية، ستُظهِر الكلاب بشكل عام توهّجًا مثيرًا للإعجاب في حل هذه المشكلة، وذلك بناءً على تعليماتك، خلافا للقطط التي لا تكترث كعادتها.
كما تُظهر الكلاب أيضًا تعاطفًا رائعًا تجاه البشر. إذ اكتشف الباحثون أن الكلاب تتفاعل مع مشاعر أصحابها، إلى جانب الغرباء. فلاحظوا أنه حين يبكي صاحبها أو أي شخص غريب، تظهر الكلاب اهتمامًا متزايدًا به خلافا لحديثه العادي، إذ ستقوم الكلاب بشم ولعق أصحابها والغرباء على حد سواء.
ولكي نظل محايدين، لابد من الإشارة إلى دراسة أجريت للتأكد ما إذا كانت الكلاب المنزلية (غير المدربة للاستجابة لحالات الطوارئ) ستطلب المساعدة في حالة الطوارئ.
في هذه الدراسة، قلد أصحاب الكلاب إصابتهم بالنوبة القلبية أو أنهم محاصرون تحت خزانة كتب.
وقد أظهرت النتائج أن الكلاب لم تطلب المساعدة لمالكيها من أحد المارة، ما يضعنا أمام فرضيتين لتفسير هذه النتائج: فإما أن الكلاب قد أدركت أن الوضعية زائفة، أو أنها استطاعت رصد ضعف الاستجابة من المارة ما دفعهم إلى عدم القيام بأي رد فعل.
في كلتا الحالتين، فإنه يدفعنا للتفكير في مدى قدرة الكلاب المدربة على إنجاح عمليات البحث والإنقاذ، واستغلال خصائصها السمعية والبصرية في شتى مناحي الحياة البشرية. كاستعمالها لمساعدة فاقدي البصر ومرضى الصرع.
فعلى مر التاريخ، جند البشر الكلاب في صفوف الجيش وقوات الأمن والشرطة. وقد كان الدرس المثير للاهتمام الذي تم تعلمه بعد حرب الفيتنام، هو أن الكلاب كانت أكثر فاعلية بعد قضاء وقت كبير مع مدربيها، فكانت الكلاب التي تمنح لمدربين جدد أقل كفاءة في الميدان. ما يشير إلى أن الترابط الاجتماعي يؤثر على الكلاب أيضًا.
وفي هذا السياق، تناولت إحدى الدراسات مستويات “الأوكسيتوسين” في الكلاب وأصحابها أثناء التفاعل والملاعبة والحديث. خلصت النتائج إلى أنه خلال التفاعل زادت مستويات “الأوكسيتوسين” لكل من الكلاب والمدربين.
ومن المعلوم أن هرمون “الأوكسيتوسين” يلعب دورًا كبيرًا في الترابط الاجتماعي، حيث يتم إفرازه أثناء التجارب الاجتماعية الممتعة مثل العناق أو لمسة من شخص تحبه.
بالنسبة للبشر هي حاجة حيوية، إذ يقترح العالم “ماسلو” تسلسلا هرميا للضروريات البشرية (هرم “ماسلو“). ويعتبر الحب والانتماء عنصريْن أساسييْن للبشر كي يصلوا إلى مؤهلاتهم الكاملة. ويبدو أننا نحقق بعضًا من هذا الشعور بالحب والانتماء عبر كلابنا. إذ تطلق هذه الأخيرة هرمون “الأوكسيتوسين” في تفاعلها معنا، مما يوحي بأن لديها نفس الاستجابة الجيدة التي نتلقاها بوجودها.
وفي دراسة أخرى أظهر العلماء أنه حين تستنشق الكلاب رائحة مالكيها، يتم تنشيط نواتها المذنبة (Caudate Nucleaus)، خلافا لاستنشاقها روائحَ غير المألوفة. وتكمن أهمية ذلك في وظيفة هذه النواة المذنبة وارتباطها بالتوقعات الإيجابية والمكافآت. باختصار تام، فإن الكلاب تدرك رائحة أصحابها ويكون لها ارتباط إيجابي تجاهها.
لكن كيف يظهر كل هذا العلم والدراسة ولاء الكلاب للبشر؟
يأتي هنا دور العامل الأساسي ألا وهو سلوك القطيع. فالكلاب على غرار أسلافها من الذئاب، هي حيوانات تعتمد في عيشها على نمط القطيع، لذلك فإنه من الواضح أنها ستشعر بالسعادة أكبر حين تكون مع قطيعها. وبالنسبة للكلاب المدجنة، فالقطيع يعوض بملاكها ومحيطها الذي تعيش فيه.
الكلاب أفضل صديق للإنسان – سلوك القطيع
تشير نظرية القطيع من الناحية العلمية، إلى أن القطيع عبارة عن بنية اجتماعية وتاريخية معقدة، حيث يرأس القطيعَ -سواء أكان ذكرا أو أنثى- القائدُ “أَلْفا” ويأتي بعده الأدنى رتبة ويسمى “أوميغا”. ويسيطر القائد “أَلْفا” على القطيع بشكل تام، ويتكفل بتحديد مناطق الصيد وتوزيع الغنائم كما يراه مناسبا. ومتى أصبح القائد ضعيفا أو مريضا، تتم تنحيته عن منصبه وتولي العنصر الأقوى قيادة القطيع، ضمانا لاستمراره.
نشأت هذه النظرية من خلال دراسة الذئاب الأسيرة في الستينيات، وبما أن الكلاب تنحدر أساسا من الذئاب، فمن المنطقي أنها ستتصرف بنفس الطريقة. ولهذا فقد عمد مدربو الكلاب لسنوات إلى ترويض كلابهم لاعتبارهم العنصر “أَلْفا” ليتم التحكم بهم بشكل الكامل.
ما حدث في هذه الدراسة حول الذئاب الأسيرة ليس له علاقة بسلوك الكلاب والذئاب، إذ كانت الذئاب المشاركة فيها من أصول مختلفة وأجبرت على العيش معًا.
ما يدعم ذلك، أن صاحب هذه الدراسة الباحث (L David Mech)، قد فند في وقت لاحق ادعاءاته الأصلية، وبدلاً من ذلك قام بوصف قطيع الذئاب بكونها تتصرف كوحدة عائلية نموذجية (تتكون من الآباء والنسل). بمجرد أن يصبح النسل كبيرًا بما يكفي، فإنهم يغادرون القطيع ويكوّنون أسرهم وقطيعهم الخاص. وكانت هذه الوحدات العائلية قائمة على التعاون والتماسك، إذ نادرا ما حل نزاع بينها.
بات من المعلوم الآن أن الكلاب والذئاب متطابقة تقريبًا في تسلسل الحمض النووي خاصتها، فالكلاب تنحدر أساسا من الذئاب.
كما أنه من المعلوم أيضا، أنه من خلال التدجين تغيرت مستويات الهرمونات وهندسة الجينات، مما أثر على السلوك والمظهر.
علينا أن نفكر أكثر في مدى ملاءمة مقارنة سلوك الذئب مع سلوك الكلب المنزلي. ففي دراسة تقارن تطور الذئاب وكلاب “الملاموث“، كانت النتائج المحصلة من الجِراء مثيرة للاهتمام، فقد أظهرت جِراء الذئب معالم تطور مهم في وقت أقل بكثير من جراء الملاموث. إذ كان بإمكانهم التحرك بشكل أسرع والتسلق لأعلى بسهولة، بينما كافح جِراء “الملاموث” للهروب من قفصهم، وكانوا أبطأ بكثير عندما سمح لهم بدخول الغابة للعب. وقد كانت جِراء الذئب أكثر اعتمادًا على أمهم، بينما انعزلت جِراء الماموث عن أمهم، محتفظة بعلاقة وطيدة مع المدربين.
سلطت هذه الدراسة الضوء على رغبة الذئاب في الابتعاد عن البشر، في حين سعت جِراء “الملاموث” إلى التفاعل معهم بشكل أكبر. كما أن تطور جِراء الكلاب البطيء نوعا أثار تساؤلا مهما، فهل يعني هذا أنها أكثر اعتمادًا على البشر لفترة أطول، وبالتالي زيادة تطور الروابط بين الكلاب والبشر؟
من المعلوم أن البشر شديدو الاستجابة لكل الأشياء اللطيفة؛ فهناك نظريات تعتقد بأن الكلاب قد تمت تربيتها بشكل انتقائي لتظهر بشكل أكثر لطافة، وذلك لتنشيط المناطق المسؤولة عن العاطفة والمتعة في دماغنا، مما يؤدي إلى استجابة عاطفية ورحيمة.
خلاصة
من خلال ما سبق يمكن أن نستنتج أن النقاط التالية :
- أصبحت الكلاب تعتمد على البشر بشكل كبير، سواء في تقديم الطعام أوالمأوى وحتى التمارين الرياضية والتحفيز.
- ستقوم الكلاب على الأرجح بطلب المساعدة من مالكيها عند محاولة حل مشكلة صعبة، على عكس القطط المستقلة.
- تستطيع الكلاب بشكل لا يصدق قراءة تعابير الإنسان والإحساس بمشاعره والتعاطف معه في حالات الحزن والانزعاج.
- بعيدًا عن الذئب الرمادي الأصلي، أدى التدجين إلى تغييرات سلوكية وجسدية على الذئاب، وصولا إلى الكلب الحديث.
- قام البشر بشكل غير مقصود بتربية العناصر الاجتماعية والأكثر ترويضًا وانصياعًا، والأكثر فائدة وكفاءة في الصيد.
- لقد قمنا بتربية الكلاب للعمل والرفقة.
- تضمن لطافة الجِراء الصغيرة أننا سنستجيب لاحتياجاتهم الضرورية، فنحن مصممون للقيام بذلك!
- يطلق كل من البشر والكلاب نفس هرمون “الأوكسيتوسين” في حضور بعضهم البعض. هذا الهرمون هو المسؤول عن الترابط الاجتماعي والمتعة. بالنسبة للبشر يساهم هذا في إحساسنا بالحب والانتماء. ويمكننا أن نفترض أن هذا يحدث أيضًا للكلاب، خاصة عندما نأخذ بعين الاعتبار ردود الفعل الإيجابية للكلاب عند استنشاق رائحة مالكيها.
قمنا بتدجين الكلاب على مدى سنوات عديدة، ما أدى إلى تطورت علاقة وطيدة معها تقضي بمصالح متبادلة بين الطرفين. فحتى العلم اليوم يكشف بأننا سعداء بوجود بعضنا البعض!
إلى هنا ينتهي مقالنا. موعدنا مع مقال آخر وحيوان جديد.
_________________________________
المصادر :
هذا النص هو ترجمة للمقال :
Why Are Dogs So Loyal? The Scientific Explanation
بتصرف
تمت مراجعة جميع مصادر هذا المقال، وهي متضمنة في النص عبر روابط (Liens Hpertextes)