يحمل التاريخ الإنساني الكثير من الإنجازات و على الكثير من الأصعدة، يحتل فيه تاريخ العلم و التقنية الجزء اليسير. على مر العصور، ساهمت حضارات عديدة في تقدم العلم و نموه، فكانت السمة الغالبة أن جل الإنجازات أصبحت في النهاية تراثا مشتركا ساهم الكثيرون في نموه و تدرجه، فكان هناك تسلسل طبيعي و منطقي لعبت فيه كل حضارة على حدة دورا رياديا ٱعتمادا على ما تُوُفِّر لها من ظروف طبيعية أو عقول. و لكن الطابع الغالب لجل العلوم هو مواكبة كل حضارة للإنجازات التي حققتها نظيراتها السابقة أو المعاصرة، سواء بالإستفادة المباشرة منها، أو بالإعتماد عليها من أجل تطوير علوم أخرى، في إرساء قوي لمنهج البحث العلمي السليم، مما أدى في الأخير إلى دفع عجلة العلم و التقنية قدما نحو التقدم و الإزدهار.
و بالحديث عن هذا التسلسل في تطور المفاهيم، قامت الحضارة الإسلامية، من الناحية المادية، على ٱنجازات وصلت إليها الحضارات التي سبقتها، ٱعتمادا على ما تزخر به من عقول و ثروات طبيعية، إضافة إلى موقعها الإستراتجي الذي يتوسط حضارات الهند و الصين و الرومان و الفرس و مصر. فقد كان للمسلمين مآثر في عدد من العلوم شملت الرياضيات و الفلك و الفيزياء و الكيمياء، إضافة إلى الهندسة و الجانب التقني لكل مناح الحياة اليومية.
فإيمانا منا في المجتمع العلمي المغربي بأهمية تاريخ العلوم في بناء المفاهيم و تطورها و لإستشراف جيد للمستقبل، و كما عملنا على إبراز ما ساهمت به حضارات عديدة في تطور الكثير من العلوم، كان أيضا لزاما و من باب الأمانة العلمية و التاريخية أن نعرج على الحضارة الإسلامية، فنسبر أغوارها و نستعرض دورا ما كان قد لُعِب في مرحلة ما في بناء و تطور العلم و المعرفة.
فتجدر الإشارة هنا أن الحديث عن ما ساهمت به حضارة معينة في تطور العلوم ليس تمجيدا حصريا لها وحدها، لأنه أولا و أخيرا ٱستعراض لبناء معرفي أُسس و بُني على ما توصلت إليه حضارات سابقة، و في الوقت نفسه أساس لما سيُبنى بعدها من طرف الحضارات الآتية بعدها. إدن هو دور، مهم طبعا، في سلسلة تشاركت فيها كل الحضارات مع ٱختلاف في الأزمنة و الترتيب، لذا حُقَّ أن تكون كل الإنجازات، و بدون ٱستثناء، تراثا ٱنسانيا مشتركا ساهم الجميع في بناءه.
في هذه السلسلة، سنسلط الضوء أساسا على كيفية ٱنتقال المعارف و الإنجازات في مجال العلوم التي تُطُوِّرت في عهد الحضارة الإسلامية إلى الغرب، لأنه كلما مرَّت معرفة من حضارة لأخرى إلا و وُوجدت ظروف معينة و عقول كرَّست جهدا مهما من أجل ٱستغلال ما وُجد من معرفة لبناء أخرى. هذه الميكانيزمات سنحاول التطرق إليها في هذه السلسلة، أملا في أن نبين أن تحقيق أي نهضة علمية لا تكون إلا بالإستغلال الأمثل لما وصل إليه العلم الحديث اليوم، و الإنطلاق بها في بناء ات جديدة…، إن تُوُفرات الإرادة الحقة لذلك!