قليل من كثير عن حياة عبقري: الجزء الثاني
كان جدي يدخن الغليون إلى حد الإدمان. لقد كان وفيا لنوع من التبغ يدعى “ريفيلاسيون”. كل الغرف التي كان يتردد عليها كانت تفوح برائحة التبغ. في نهاية حياته، منع عليه الأطباء التدخين، إلا أن جدي كان يجمع بقايا السجائر الملقاة في الشارع ليحشو بها غليونه، حسب أقوال “دوكاس” !
عند عودته في المساء من المعهد (معهد العلوم المتقدمة)، كان يتناول حساء خفيفا. أثناء تناوله لوجبته، كان يضطر لابتلاع عدد من الأدوية التي كان يصفها قائلا : هذا مقرف جدا. بعد العشاء، كان يكرس نفسه للموسيقى أحيانا. في نهاية عام 1940 تعرضت “ماجا”(Maja)، أخت جدي و التي كانت تعيش معه في “برينستون” لجلطة دماغية، الشيء الذي جعلها لا تغادر غرفتها البتة. لذلك كان جدي يقرأ لها كل مساء لمدة لا تقل عن ساعة.
كنت أحب “ماجا” كثيرا. فلقد اعتنت بي خلال الحرب، عندما كنت أقضي عطلتي عند جدي بسارا ناك ليك (Saranac Lake) في نيويورك. كنا نقطن في مكان يدعى “نولوود” (Knolwood). بالنسبة لي، كان هذا المكان جنة بكل المقاييس، ففيه كنت أستطيع الذهاب لصيد السمك وممارسة رياضة قوارب الكانو والقوارب الشراعية، و كذا البلياردو والسباحة و التزلج على الماء، بالإضافة إلى التخييم والقيام بعدة نزهات. لم يكن جدي ليغير العادات التي كانت تميزه في “برينستون”. لقد كان دائما يفرض علي ألا أصطاد سوى القدر اللازم لسد جوعي. و بناء عليه، كنت أذهب صباحا لاصطياد سمكة وحيدة أقوم بتناولها في وجبة الفطور.
خلال عطلتي في “نولوود”، كنا أنا و جدي نركب القوارب الشراعية دوما، و لكن لا نتبادل سوى كلمات معدودات. لكن أتذكر مرة أن جدي صار فجأة ثرثارا. فقال لي إنه يحب الإبحار في جو هادئ و إن هذا الأخير يشكل تحديا لكل بحار. ثم بعدها صار يحدثني عن فقاعات الصابون، من منظور رياضي بطبيعة الحال. بصراحة لم أفهم كلمة مما قاله، و لكن أحسست بنوع من السحر و الإعجاب و بأن رحلتنا انتهت قبل أن تبدأ. و منذ ذلك الحين و أنا أتساءل: هل كان يفعل ذلك حتى أبقى هادئا؟
في مرة من المرات التي كنت فيها في “نولوود”، قام “بولي”(Wolfgang Pauli)(عالم فيزياء نمساوي، حصل عام 1945 على جائزة نوبل، و عرف بمبدأ الاستبعاد في ميكانيكا الكم، والذي يحمل اسمه) بزيارتنا بدعوة من جدي. كان “بولي” عضوا في معهد العلوم المتقدمة. أتذكر جيدا أنه لم يتفوه بكلمة تذكر أثناء تناول الطعام. يمكن القول بأنه لم يكن يحب الكلام كثيرا. بعد الفطور، كان يتوجه رفقة جدي للطابق الأول. و بعد الظهر، يقوم “بولي” بلعب الشطرنج مع” ماجا” و يظل كعادته ملتزما الصمت خلال مباريات الشطرنج الطويلة، و لكن يظهر للعيان السرعة التي يختفي بها الكم الكبير من الحلويات المتواجدة بقربه. أشعر بالضحك عندما أتذكر هذا.
قبل التحاقي بمدرسة البوليتكنيك الاتحادية في زيورخ، مررت ببرينستون لأقضي ساعات رفقة جدي الذي أعطاني 5000 دولار لأتم دراستي، كما ساعدني على تسوية وضعيتي. في ذلك اليوم، تحدث معي عن الفيزياء، و سألني عما أعرفه عن الطاقة. و لكنه تراجع بعدما لاحظ عدم قدرتي على فهمه و تتبع تفاصيل حديثه.
قبل وفاته، دعا والدي ليكون بجواره و هنأه للمرة الأولى على أعماله، لكوني أظن أن جدي كان يشعر بخيبة أمل لأن والدي لم يدرس الفيزياء ليصير عالم فيزياء مثله. من الممكن أن جدي حكى لوالدي عدة أسرار، لكن أبي لم يخبرني بها قط. و أثناء ذلك ظل الأطباء يحثون جدي على ضرورة القيام بعملية جراحية على مستوى الأبهر، إلا أن جدي رفض قائلا لابنه: “لقد حانت ساعتي”.
المصدر: Science et Avenir N°806
ترجمة: سعيد الفراشي
التدقيق اللغوي: علي توعدي