يعمل علماء الفيزياء ونظراؤهم في علوم الحياة ليل نهار من أجل فهم سر الحياة وفهم مكوناتها، لكن ورغم ذلك ومنذ سنوات طوال في العمل لازال البحث لم يصل إلى نتيجة مرضية. فإلى أي مدى يمكن أن يصل بحث العلماء في فهم المادة؟ كيف لها أن تكون نشطة وتنظم نفسها عند حدوث أي خلل؟ كيف يمكن جمع العلماء ومجالات عملهم معا من أجل الوصول إلى نتيجة في فهم المادة؟
المدخل الثالث: السحر العملي
فقط في أواخر 2000، بدأت تتجمع القطع النظرية والتجريبية. قاد أندرياس بوش إحدى أولى التجارب الكمية الدقيقة، حيث قام مع زملائه بخلط الأكتين، إحدى الخييطات المكونة للهيكل الخلوي، مع الميوزين، وبإضافة ال’ATP’، وملاحظته عبر المجهر في تركيزات منخفضة، لوحظ أن خيوط الأكتين تسبح بشكل عشوائي، ولكن مع ارتفاع الكثافة، تبدأ بتشكيل مجموعات، دوامات وأشرطة متذبذبة. مما مكن الفريق من التعرف على مراحل التحولات التي تنبأ بها فيسيك وآخرون. وقد ساعدت ورقتهم البحثية في 2010 في تكثيف البحث في مجال المادة النشطة التجريبي.
من بين العديد من الدراسات التي أتت بعد ذلك نجد تجارب دودجيك سنة 2012 على الأنيبيبات الدقيقة، الذي استعمل بروتينات متحركة أخرى هي الكنيزين. كانت الأنماط الناتجة أكثر تعقيدا وديناميكية من تلك التي لاحظها بوش في تجربته، حيث تبدو الأنيبيبات الدقيقة المنسابة كدوامات البصمات المتحركة، كما لاحظ دودجيك وزملاؤه في تجربتهم أن هذا النظام الناتج يمكن أن يكسر في بعض الأحيان، وينتج عيوبا في الأخير. هذه العيوب الحيوية، تتحرك مثل الجزيئات ذاتية الدفع.
لا توجود نظرية لتفسير هذا السلوك في ذلك الوقت.لكن في 2014، قام دودجيك وبوش بمساعدة الفيزيائية كريستينا مارشيتي من جامعة سيراكوز في نيويورك بوصف سلوك البلورات السائلة النشطة التي تحوم حول الحويصلات الكروية من حيث حركة العيوب، بدلا من جزيئيات البلورات الفردية. وعلاوة على ذلك، وجد الفريق أنه يمكن ضبط حركة العيوب وذلك عن طريق ضبط القطر والتوتر السطحي للحويصلة مما يدل على أن هناك وسيلة ممكنة للسيطرة على البلور النشط.
هل هناك تطبيق صناعي للمادة النشطة؟
أي تطبيق يلوح في الأفق يجب على الأقل تخطي حاجز رئيس، حيث المواد المستعملة في التجارب مواد جد مكلفة، فالأنيببات المستعملة في تجربة دوجيك مأخوذة من أدمغة البقر، أما بوش فقد استعمل الأكتين من عضلات الأرانب، بل وحتى مدة حياتهم قليلة في المختبر. ويقول بوش أن الاستعمال التجاري غير وارد في ظل هذه الإشكاليات.
التقدم في المواد النشطة المصنعة قد يبين الطريق مستقبلا، فمثلا في 2013، الفيزيائي في جامعة نيويورك بول شيكين، قام بوضع جزيئات الهيماتيت داخل بوليمير كروي، وعند وضع هذه الأخيرة في سائل الهيدروجين بيروكسيد وتعريضها لضوء أزرق، يحدث تفاعل كيميائي يجعل الجزيئات تدور تلقائيا. وفي 2013 أورد بارطولو وزملائه في تقرير لهم أنه باستعمال كرات بلاستيكية في سائل موصل حصلوا على تدفق واسع النطاق. وعند تطبيق نجال كهربائي لاحظوا دوران الكرات في اتجاهات عشوائية.
لكن هذه المواد المخبرية تبقى بدائية، مقارنة مع تلك المنتجة داخل الخلايا بعد أربعة ملايير سنة من التطور البيولوجي. الكينيزين المستعمل، يقول دودجيك، يبقى أكثر كفاءة من أفضل المحركات التي صنعها البشر لتحويل الطاقة إلى حركة.
هل هذا يكفي؟
يأمل علماء البيولوجيا أن تكشف هذه الدراسات عن المبادئ الأساسية التي تتحكم في طريقة انقسام الخلايا، كيف تتشكل وكذا طريقة تحركها. يشبهها عالم الأحياء طوني هيمان بالتصنيف الليني الذي أتى قبل داروين. ويضيف، “حصلنا على جميع هذه الجزيئات، كالذي كان لديه جميع هذه الأنواع، ويجب علينا تنظيمها بشكل ما، وهناك سبب وراء ذلك”. يظن هيمان أن المادة النشطة يمكن أن توفر ذلك السبب.
لكن حتى المتحمسين يعترفون أن علماء الأحياء يحتاجون إلى الإقناع. يقول هيمان “لقد اعتدنا على الكثير من الأوراق البحثية المرفوضة في البداية”، جزئيا بسب استعمال الرياضيات في بعض الأوراق البحثية مما يجعلها ثقيلة جدا للمراجعة أو حتى وجود مراجعين لها. في بعض الأحيان، يقول هاورد، حتى كلمة المادة النشطة قد تعيق التواصل ناهيك عن المصطلحات الفيزيائية التي تحتويها.
يأمل هاورد وهيمان أن زيادة التقارب مستقبلا بين الحقول العلمية (الفيزياء والبيولوجيا) سيساعد على قبول الأبحاث. ويضيف هيمان أن الجيل الجديد من الباحثين في علوم الأحياء سيكونون ملمين بالفيزياء منذ البداية. وهو أمر جيد، يضيف ستيفان جريل، عالم الفيزياء الحيوية في الجامعة التقنية في دريسدن، حيث أن التقدم في مسألة المادة النشطة، يحتاج إلى العلماء الذين يوجدون على الحدود بين الفيزياء والبيولوجيا. “وعاء الذهب هو الواجهة”، يقول، “لكن يجب الدفع بالحقلين معا إلى الحد الأقصى”.
المصدر نيتشر