تقوم الفيزياء الكمية على دراسة ظواهر غريبة يصعب تخيلها عبر الطرق التقليدية. حيث أن هذه الظواهر تغير من شكل العالم الكلاسيكي الذي نعيش فيه وتربط عناصره بروابط غريبة. قال ريتشارد فاينمان ذات يوم، في معرض حديثه عن غرابة هذا العلم: “أظن أني سأخاطر بسمعتي وأجزم ألا أحد يفهم فعلا الفيزياء الكمية”. ومن المنطقي أن تعرف نظريات هذا المجال تفسيرات وتأويلات مختلفة، تحاول اقتراح صور ذهنية تساعد الفيزيائيين على التعامل مع الظواهر عبر الحدس ودون الدخول في دوامات العلاقات والنماذج الرياضياتية. من بين التأويلات التي ظهرت نستحضر أكثرها رواجا وقبولا بين الفيزيائيين: تأويل كوبنهاجن، الذي دافع عنه نيلز بور وهايزنبرج وفولفجانج بولي والذي يعتبر تأويلا تقليديا متشددا وصارما.
العَالم حسب بور
في 1927 وخلال محاضرة بمدينة كوم (Côme)، قدم نيلز بور رؤيته للنظرية الكمية. وكان عرضه تلخيصا للأفكار التي أدت إلى تشكيل هذا الفرع الجديد من الفيزياء، الذي كان يتوفر آنذاك على إطار رياضياتي قوي وفعال حيث مكن العلماء من تفسير العديد من الظواهر التي عجزت عنها الفيزياء النيوتونية مثل الثقوب السوداء والتفاعلات الكهروضوئية وبنية النواة. إضافة إلى ذلك، تتوفر الفيزياء الكمية على عدد من المسلمات، تتميز منها اثنتان لأهميتهما، إلا أن عدم توافقهما ظاهريا أدى إلى نشوء عدة طرق مختلفة في فهم النظرية.
المسلمة الأولى هي معادلة شرودينجر التي تتميز بكونها خطية تواصلية (Linéaire continue). يعني ذلك أن مركب نظامين يحققان المعادلة يحققها أيضا وأن النظام يبقى على حاله إلى ما لا نهاية في غياب مؤثرات خارجية.
وعند تطبيق مبدأي الخطية والتواصلية بشكل صارم، نتوصل إلى تناقضات ومفارقات لعل أشهرها مفارقة قط شرودينجر الحي والميت في نفس الوقت. كما أن الخطية تشير إلى أن هذا النظام سيستمر على حاله إلا الأبد لغياب ما يمكنه كسر تركيبته. إذا اعتمدنا فقط على معادلة شرودينجر، فلن نحصل على نتيجة واحدة بل على مجموعة من النتائج المحتملة.
للتغلب على هذا المشكل، تضمن تأويل كوبنهاجن مسلمة القياس، التي ينص مبدؤها على اعتماد أنظمة الاحتمالات لاختيار نتيجة واحدة من بين النتائج الممكنة للنظام وجعلها الحل الوحيد. فيصبح الحدث اللحظي الذي ينتج عن القياس (الملاحظة) خارجا عن كل تفسير فيزيائي، مما يجعل منه أداة لكسر التواصلية اللانهائية المنصوص عليها في معادلة شرودينجر في ظاهرة تسمى انهيار الدالة الموجية. إلا أن خصوم التأويل التقليدي المتشدد (تأويل كوبنهاجن) يعتبرون غياب التفسير الفيزيائي لهذه العملية دليلا على عدم تماسكها وضعف فعاليتها النظرية.
وخلال هذه الفترة أيضا، قدم نيلز بور وتلاميذه عددا من المبادئ الأساسية لتعزيز اللبنات المكونة لتأويل كوبنهاجن، مع ما حملته هذه الإضافات من عناصر الجدال والخلاف الجديدة. ويخص الأمرمبدأ التكامل ومبدأ الارتياب ومبدأ التوافق.
تقديم لبعض المبادئ الكمية
يفتقد مبدأ التكامل الذي وضعه بور إلى الوضوح في طريقة صياغته. ويرتكز ببساطة على إمكانية استعمال عناصر لغوية متناقضة لوصف الظواهر الفيزيائية. ومن أجمل الأمثلة المتعلقة بهذا المبدأُ نذكر ازدواجية الموجة والجسيم. فالفوتونات تتصرف كما نعلم جميعا كموجات في بعض التجارب وكجسيمات في تجارب أخرى. ويعتبر بور أن هذين التمظهرين للفوتون متكاملان. ويمكن تأويل مبدأ الارتياب لهايزنبرج على هذا المنوال أيضا. فعند تطبيقه على قياسات الموقع والسرعة ينص هذا المبدأ على استحالة معرفتهما معا في نفس الوقت وبدقة كبيرة. نقول إذن أن الموقع والسرعة قياسان مترابطان ومتكاملان.
ومن جهة أخرى، يؤكد مبدأ التوافق على كون الفيزياء الكمية تشكل نوعا من التعميم للفيزياء الكلاسيكية، وبالتالي فإن هذا المبدأ يسلط الضوء بشكل بديهي على السؤال حول الحدود بين العالم العياني (الماكروسكوبي) والعالم المجهري (الميكروسكوبي).
فإذا سلمنا بأن كل جسم عياني يتكون من جسيمات مجهرية (جزيئات ونوى وإلكترونات …) فلماذا لا يتصرف بنفس الطريقة الغريبة التي تتميز بها هذه الجسيمات؟ ومتى نستطيع أن نعتبر أن جسما معينا ليس عيانيا؟ لم يستطع بور الإجابة بوضوح على هذه الأسئلة، مما ترك الحدود بين العالمين مبهمة، إلى أن ظهرت نظرية فك الترابط في 1970 لإيجاد مخرج لهذا المشكل.
تعتمد هذه النظرية على الرجوع إلى تدخل البيئة الخارجية لتفسير انعدام التداخلات الكمية عند الأجسام العيانية (مثل قط شرودينجر). ورغم النجاح الذي وصلت اليه هذه المبادئ في التنبؤ بالظواهر الفيزيائية والكيميائية أيضا، فقد عرفت السنوات التي تلت إصدارها انتقادات وهجومات عديدة على تأويل كوبنهاجن، وخصوصا من طرف أينشتين وشرودينجر. فرغم كون هذين العالمين من مؤسسي الفيزياء الكمية، فقد رفضا قبول تأويل كوبنهاجن بشكل كامل لأنه يعتمد على الاحتمالات من جهة، وعلى مبدأ الواقع الفيزيائي المستقل عن الملاحظ من جهة ثانية، وهو ما لم يؤمنا به. ورغم العديد من النقاشات اللامتناهية والمشوقة بين بور وأينشتين، فلم يستطيعا التوصل إلى اتفاق بشأن نظرة موحدة.
وماذا بعد تأويل كوبنهاجن؟
بدأت تظهر تأويلات وأبحاث جديدة بعد خمسينات القرن العشرين، نستحضر منها نتائج دافيد بوم (David Böhm) الذي اعتمد على تأويل موجات المادة الذي قدمه لويس دو بروجلي (Louis De Broglie) في 1924.
يجمع بوم في نظريته بين الموجات والجسيمات التي تم التفريق بينها بمبدأ التكامل في تأويل كوبنهاجن. فبوم يعتبر أن الموجة “موجهة”، حيث أنها تتواجد في الفضاء مع الجسيم وتوجهه على مساره. نلاحظ أن ما أتت به هذه النظرية يؤدي بالأساس إلى خضوع الموجة وموقع الجسيم لقوانين الفيزياء الكلاسيكية، حيث يمكننا ملاحظة مسار الجسيم الذي يؤثر عليه الحقل الناتج عن الموجة، مما يؤدي (نتيجة لهذه الملاحظة والقياس) إلى احتمال تواجد مسارات غير مستقيمية ومنحنية. وقد تمكن بوم باتباع هذه النظرية من تفسير ظواهر التداخلات الكمية مثل التي نلاحظ خلال تجربة يونج (شقا يونج). فإذا تداخلت موجات المادة فستؤثر حتما على مسارات الجسيمات التي ستشكل صورة تداخلات على شاشة الملاحظة.
ويتميز تأويل بوم بالرجوع إلى نظرة كلاسيكية للظواهر الكمية، إلا أن العديد من منتقديه يؤكدون أنه يحمل صعوبات عديدة حين محاولة تطبيقه على مشاكل النسبية.
حاول مجموعة من الباحثين إيجاد أنماط أخرى من التأويلات عبر تغيير معادلات شرودينجر بإضافة طرف مسؤول عن انهيار الدالة الموجية. إلا أن هذه الطريقة أدت إلى إدخال عمليات عشوائية جديدة تعقد بشكل كبير المشاكل الرياضياتية. ومن التأويلات التي تجب الإشارة إليها، نجد تأويل إيفريت Everettالصادر في 1957 تحت مسمى “نظرية الأكوان المتعددة”. يعمد إيفريت بكل بساطة إلى إلغاء اللاتوافق الحاصل بين مسلمة القياس ومعادلة شرودينجر. فنظريته تعتبر أن جميع النتائج المحتملة لقياس معين تحدث ويجب أخذها بعين الاعتبار. ولكنه يرى أن ذاكرة الملاحظ لا تحتفظ إلا بفرع واحد من شجرة النتائج، وهو الفرع الذي ينتمي إلى الكون الذي يعيه ويحس به. وتنتمي الفروع الأخرى إلى أكوان لا نستطيع الوصول إليها. ففي إطار تفسير تجربة شرودينجر، سيكون القط حيا وميتا في نفس الوقت، ولكن في كونين مختلفين.
ورغم أن هذا التأويل يحمل كما كبيرا من الغرابة والخيال، فهو يتميز بتقديم نتائج واضحة وواقعية كما أنه جد مقبول في صفوف الفيزيائيين العاملين في مجال الكونيات.
توجد العديد من التأويلات الأخرى، يحاول كل واحد منها تقديم نظرة أكثر بداهة ووضوحا للفيزياء الكمية مقارنة بتأويل كوبنهاجن، إلا أن هذا الأخير يبقى المهيمن إلى يومنا هذا. فرغم كل الهجومات والانتقادات التي وجهت إليه، لم يعرف العلماء منذ 1930 أي تجربة تناقضه، مما يدفعنا للاعتقاد بأنه سيستمر في الهيمنة مدة من الزمن.
المصدر: مجلة الملفات الهامة للعلوم، عدد خاص بالفيزياء الكمية صدر في مارس 2013.
مصادر الصور
http://www.willeime.com/everett.jpg
http://fr.cdn.v5.futura-sciences.com/builds/images/thumbs/e/ed9ea1b485_bohr_einstein_wikipedia_Ehrenfest_04.jpg
http://www.astrosurf.com/luxorion/Physique/chatschrodinger.jpg