اجتمع شباب عبر الفايسبوك وقرروا الخروج إلى الفضاء العام لدعوة الناس للقراءة. موقف اعتدناه في أغلب المدن المغربية من طنجة إلى الكويرة. تناسلت الدعوات للمطالعة هنا وهناك.
هؤلاء الشباب يؤمنون إيمانا راسخا أن طريق الخلاص تمر لزاما عبر الكتاب، وهم مصيبون تماما. من أجل الفهم المتأني يجب أن نعود قليلا إلى زمن مضى. في القرنين الثامن والتاسع عشر، كانت الفكرة السائدة أن تقدم الأمم رهين بتطوير صناعتها. وكانت الثورة الصناعية سببا مباشرا في ثراء دول بعينها كإنجلترا، وافتقار دول أخرى كانت تقترض منها كالدولة العثمانية . كان هذا هو النظام الاقتصادي الجديد آنذاك. دول أخرى استوعبت المنجزات العلمية فانطلقت لتحقق ثورتها الصناعية، وأخص بالذكر اليابان، في حين أن دولا أخرى (و منها بلدنا) لم تفهم أسس هذه النهضة، فصارت تلقب بالعالم المتخلف. تطورت حياة الناس وحدثت أزمات وحروب، وتوجه العلم نحو تكنولوجيا التواصل، فاكتشف الحاسوب، ومن بعده الهاتف المحمول، فصار الإنسان في مركز اهتمامات العلم بعد أن كانت الآلة مركز هذا الاهتمام.
في سنة 1995 سيهتم عالمان يابانيان Nonaka, Ikujiro و Takeuchi, Hirotaka.بمعرفة أسباب ريادة الشركات اليابانية، فخلصا إلى أنها تحسن تدبير المعرفة المتوفرة لدى موظفيها (سواء منها المعرفة الواضحة؛ وهي المعرفة المكتوبة المتداولة، أو المعرفة المضمرة؛ وهي معرفة خاصة بكل واحد منا تبعا لتجاربه الشخصية والعاطفية). مقارنة بالشركات الأوربية والأمريكية، كان كتابهما The knowledge creating company: how Japanese companies create the dynamics of innovation. بداية لبروز فكر اقتصادي جديد مبني على إيلاء الاهتمام الحقيقي للثروة الأهم لدى الشركات والأمم وهي المعرفة. ثم غدا اقتصاد المعرفة مصطلحا متداولا بين كل الفئات المجتمعية في العالم، وصار الكل واعيا بأهمية المعرفة كمنتوج يجب تداوله داخل المجتمع. إن كمية المعرفة في مجتمع ما هي مجمل ما يعرفه أفراده، فكلما عرف فرد أشياء جديدة زاد مخزون المعرفة بالمجتمع، وتقوى بالضرورة اقتصاده وزاد ثراؤه. ومن سبق له أن زار دولة متقدمة سيرى بأم عينيه أن كل حي به مكتبته الخاصة، بل هناك إرادة لتوفير الكتب مجانا لتكون في متناول الناس في كل مكان، كما هو الحال بالنسبة لمترو مدريد، حيث يمكن للمرء أن يستعير كتابا في بداية رحلته بالمترو، وإعادته في نهايتها. والمعرفة لا تعني فقط القراءة، بل تعني الحصول عليها أولا، ثم نشرها عبر مشاركتها مع الآخرين، لذا نجد الجامعات الغربية تمنح الجميع فرصة الوصول لمعارفها، في حين أن جامعاتنا تضع العراقيل في وجه طلاب العلم، وهذا يعني أنها لازالت لم تفهم منطق التنمية الجديد. في هذا الظرف، مهمة تدبير المعرفة تقع على عاتق الناس العاديين، والذين هم مطالبون بالاطلاع والتزود بالمعرفة ونشرها بين الأخرين. وهذا التدبير لا يتم فقط عبر الأدوات التقليدية كالكتب والمجلات، بل يتعداها إلى كل وسائل الاتصال: من حاسوب، وهاتف محمول، و شبكة عنكبوتية… فعندما ينشر أحدنا ما يخطر بباله على حائطه في الفايسبوك، فقد خطا أولى الخطوات في نشر معرفته المضمرة، وجعلها في متناول الأخرين. ويبقى فقط تحليل قيمتها المضافة على المجتمع، وبالتالي على مخزون المعرفة الذي هو مقياس تقدم الأمم. أما عندما يبدأ الآخرون في التعليق والتفاعل، فهم يساهمون وجوبا في رفع قيمة هذه المعرفة، ويساهمون عبر معرفتهم في تطويرها، وتثمينها، وهذا أيضا يؤثر في المخزون العام للمعرفة بالمجتمع. كذلك من الواجب الإهتمام بسلامة اللغة التي نستعملها لترويج المنتوج المعرفي بين الناس، فلا يستقيم هذا التبادل، والتشارك، والإنتاج، إلا باعتماد لغة ميسرة ومفهومة لدى جميع الفئات، فمن يكتب بالفرنسية لمجتمع لا يفهمها، كمن يكتب لشخص لا يقرأ. ومن يكتب بلغة الهريسة كما وصفها الرئيس المرزوقي في إحدى مقالاته، و يقصد اللغة التي تعتمد حروفا لاتينية لكتابة كلمات عامية، مع استعارات من لغة أجنبية، كمن يكتب بالصينية لشخص لا يفهم إلا العربية ويطالبه بالفهم والتفاعل.
ما زلت أتذكر تدخل فرنسية في إحدى الندوات التي حضرتها بفرنسا، حين آخدت على الشباب المغاربي استعماله للغة فرنسية غير سليمة (تقصد لغة الهريسة! ) للتعبير على الأنترنيت. من يفهم أسس اقتصاد المعرفة سيفهم ردة فعل المتدخلة، فالتعبير بهذه اللغة العرجاء لن يساهم في الرفع من مخزون المعرفة للمجتمع، وبالتالي يضيع عليه فرصا هائلة على في التقدم والتطور. الشباب الذي خرج مرارا وتكرارا إلى الساحات العمومية حاملا كتابا لدعوةالناس للقراءة، يفهم كل هذا، ويحز في نفسه أن تضيع على وطننا فرصة أخرى للدخول إلى عالم التنمية الحقيقي.
يوسف أشعود
مهندس تربوي
متخصص في تكنولوجيا المعلومات والإتصالات