اكتشاف جديد في مجال السرطان قد يعطي شتى أنواع العلاجات الدقة المطلوبة
أحدثت العلاجات المناعية (تعتمد على تعزيز الجهاز المناعي لمحاربة السرطان) ضجة عارمة في وسائل الإعلام خلال الأعوام القليلة الماضية، فمنذ ظهورها سهر العلماء على إيجاد الجزيئات الأمثل لتكون هدف العلاجات في الخلايا السرطانية، وعلى كيفية هدم “الجدار” الدفاعي الذي تتحصن فيه هذه الخلايا.
يمكن القول أن الأسلحة المتوفرة حاليا لمحاربة السرطان أسلحة فتاكة، لكن في نفس الوقت، قليلة الدقة، حيث أن معظمها يسبب تأثيرات جانبية خطيرة. لذا فإنه من الضروري إيجاد علاجات ترشد الخلايا المناعية لمحاربة الخلايا السرطانية دون المساس بالخلايا السليمة. في ضمن إنشاء خطة حربية جديدة فعالة، سلط العلماء الضوء على طريقة جديدة لإرشاد العلاجات المتوفرة في الحرب ضد السرطان. لكن دعونا نوضح لكم أولا كيف تعمل شتى أنواع العلاجات المناعية.
مساعدة الجهاز المناعي في حربه ضد السرطان
خلال الأعوام الماضية، حاول العلماء ابتكار طرق عديدة تمكن الجهاز المناعي من محاربة السرطان، مثل إزالة العوائق لدى خلايا المناعة أو تعديلها وراثيا لتستهدف الخلايا السرطانية وكذا بصم هذه الأخيرة ليتم القضاء عليها. لكن هذا يعتمد على قدرة الجهاز المناعي على التعرف على الخلايا السرطانية.
معظم الخلايا التي تشكل أجسامنا تُظهر على سطحها عن بروتينات تعمل كبطاقة تعريف شخصية تقدم لخلايا المناعة. هذه البروتينات هي التي تسمى بالمستضدات. عندما يحدث خلل ما في الخلية، تقوم هذه الأخيرة بتركيب بروتينات غير معهودة تتعرف عليها الخلايا اللمفاوية T (نوع من خلايا الجهاز المناعي يدمر هدفه عبر التماس المباشر) وتحسبها مستضدات غريبة أو أجنبية. في هذه الحالة، ترسل الخلايا T إشارات متعددة تقضي على الخلية المختلة.
وجدير بالذكر أن الضرر الذي يحدث على مستوى الحمض النووي في الخلايا السرطانية يعد من الأسباب التي تغير شكل المستضدات. لهذا، فإنه من المفترض أن يهاجم الجهاز المناعي هذه الخلايا ويدمرها، لكن قد لا يحدث هذا الأمر في بعض الأحيان… لماذا؟ هذا ما حاول الباحثون فهمه.
هل يكفي مجرد التعرف على المستضدات؟
يقول الدكتور “سيرخيو كيثاذا”، أحد أبرز رواد هذا المجال، أن محور التفاعل بين الجهاز المناعي والسرطان قد يتم بطريقتين. إحداهما تتأسس على مجرد التعرف على الخلايا السرطانية من قبل خلايا المناعة. فإذا حدث هذا المطلب، تعرف الجهاز المناعي على جميع الخلايا السرطانية أيا كانت مستضداتها. الطريقة الأخرى يقوم فيها الجهاز المناعي بملاحقة الخلايا السرطانية التي تظهر على سطحها مستضدات معينة تاركا غيرها تنتشر وتتكاثر. بالتالي فإن محاولة القضاء على الخلايا السرطانية بهذا الشكل غير ناجع.
قضية تطور لا غير؟
يقول البروفيسور “شارلي سبانتون”، أحد أبرز النابغين في مجال التغيرات الوراثية التي تطرأ على الخلايا السرطانية، أن أحد الأسباب التي تفسر صعوبة علاج بعض أنواع السرطان، مثل سرطان الرئة أو سرطان الجلد، تنحدر من سرعة تطور الخلايا السرطانية وتغيرها من حيث لا يمكن للأدوية أن تستهدف الأهداف التي ابتُكرت من أجلها.
في الحقيقية، ما توصل إليه الخبراء مؤخرا هو أن مراحل نمو السرطان عبارة عن نموذج مصغر لنظرية التطور الداروينية، لأن جميع الخلايا السرطانية تنحدر من خلية مختلة واحدة (الجذع) فقدت سيطرتها على الانقسام حتى شكلت باقي أنواع الخلايا السرطانية (الفروع) إثر عمليات الانقسام المتكررة.
الأهم من كل هذا أن فريق سبانتون سبق له أن أثبت أن بعض الطفرات الوراثية التي تحدث في الخلية الأم (الجذع) يستمر وجودها في جميع الخلايا خلال مراحل تطور الورم ولا تختفي رغم التغيرات الهائلة التي تشهدها المادة الوراثية. إذا انطبق هذا الأمر على المستضدات كذلك، فإن الجهاز المناعي سيتمكن من “رؤية” هذه “البقايا التطورية” ويهاجم الخلايا السرطانية بغض النظر عن نوعها. بمعنى آخر، الأبحاث العلمية تتجه نحو معرفة المستضدات المشتركة بين الخلايا السرطانية. على هذا السياق، افترض الباحثون أن تنوع الطفرات الوراثية في خلية سرطانية ما سيكون دليلا وإشارة على تنوع المستضدات الموجودة على سطح الخلية، ولكن هذا الأمر يبقى محض افتراض لحد الآن. وللتأكد منه، قام الباحثون بفحص البينات الوراثية لمرضى مصابين بنوعين مختلفين من سرطان الرئة، ولاحظوا في النوع الأول عددا كبيرا من المستضدات المشتركة بين الخلايا السرطانية مصاحبة بتطور إيجابي للمرض. بينما في النوع الثاني، لم توجد أصلا مستضدات على سطح الخلايا، ما يجعلها “غير مرئية” للجهازالمناعي. المذهل في هذا كله هو أن الخلايا المناعية تعرفت على المستضدات عندما قُدمت لها في تجربة قام بها الباحثون. السؤال التالي هو: إذا كانت الخلايا المناعية قد تعرفت على جميع الخلايا السرطانية (لأن المستضدات مشتركة والتعرف على مستضدة واحدة كالتعرف على جميعها)، فلماذا لم تقض على سرطان الرئة في هؤلاء المرضى؟
لقد رأينا بكل وضوح أن خلايا الجهاز المناعي قادرة على التعرف على مستضدات الخلايا السرطانية، ولكن رغم ذلك، في بعض الأحيان يستمر السرطان في النمو ولا تتمكن خلايا الجهاز المناعي من القضاء عليه. من هنا نستنتج أن للسرطان آلية دفاعية يوقف بها الجهاز المناعي.
تستطيع الخلايا السرطانية إنتاج إشارات قادرة على كبح الخلايا المناعية ومنعها من القيام بوظيفتها. ولكن الملفت للنظر هو أن هذه الإشارات تُنتج في كميات أكبر لدى الأورام الخبيثة التي تحتوي على خلايا سرطانية ذوات مستضدات مشتركة. على رأس هذه الإشارات توجد ما يعرف ب (PD-L1) . يتضح لنا من هذا كله أن المستضدات المشتركة في خلايا بعض الأورام الخبيثة هي نقطة ضعف من جهة، ولكن من جهة مقابلة، تبين لنا أن هذه الأورام تفرز كميات أكبر من جزيئية PD-L1 لتحمي نفسها من الإبادة.
قام الباحثون بترقب بعض المرضى المصابين بالسرطان بعد أن تلقوا علاجا مناعيا يقوم بمنع جزيئية PD-L1 من القيام بوظيفتها، معززا بذلك أداء الجهاز المناعي. بعد ذلك، صنفت الأورام حسب تعبيرها عن المستضدات المشتركة في مجموعتين: الأولى تحتوي على الأورام التي تمتلك خلايا سرطانية بمستضدات مشتركة، والأخرى تشمل الأورام التي تمتلك خلايا بمستضدات مختلفة. النتائج بعد العلاج المناعي كانت كالتالي:
إستجابة جيدة للعلاج المناعي | إستجابة فقيرة للعلاج أو عدم الإستجابة | |
مرضى بأورام بمستضدات مشتركة | 12 | 1 |
مرضى بأورام بمستضدات مختلفة | 2 | 18 |
بعد هذه النتائج، بدأت الصورة تكتمل: الأورام التي احتوت على مستضدات مشتركة جذبت إليها الخلايا المناعية ولكن سرعان ما أبطلت وظيفتها للبقاء على قيد الحياة. في المقابل، قام الدواء بدوره بمنع هذه الخطوة الأخيرة من الحدوث.
ماذا بعد؟
هذه الأبحاث ستمكن الباحثين من تطوير علاجات مناعية جديدة، فقد تبين من خلالها أن هناك أهدافا “جيدة” و أخرى “سيئة” للعلاجات المناعية. في نفس الوقت، أثبتت الأبحاث أن المستضدات المتعرفة عليها من قبل الخلايا المناعية هو أمر لا يمكن الإغفال عنه، فالكثير من الدراسات لا تزال مبنية على فكرة شائعة وهي أن الجهاز المناعي قادر على التدخل للقضاء عل الخلايا السرطانية بمجرد تعرفه على مستضدة واحدة أيا كانت. ولكن إذا لم توجد المستضدة في جميع الخلايا السرطانية، نعلم الآن أن هذه الخلايا المستثنية تستطيع التكاثر والانتشار لأنها “في سلم”.
الآثار المباشرة لهذه الأبحاث تكمن في مساعدة الأطباء في اتخاذ قراراتهم حول العلاجات الأنجع في شتى أنواع المرضى المصابين بسرطان الرئة كهدف أولي، وفي جميع أنواع السرطان كخطوة مستقبلية.
المصدر: أبحاث السرطان