بعد ذلك اتخذ من غرفة بجوار الجامع الأزهر سكنًا، ومن مهنة نسخ بعض الكتب العالمية موردًا لرزقه، هذا بخلاف التأليف والترجمة؛ حيث كان متمكنًا من عدة لغات، ولكنه لم يكن في سعة من العيش، فقد كان يرتزق من نسخ كتابين أو ثلاثة كتب رياضية، منها: كتاب الأصول لإقليدس في الهندسة، وكتاب المجسطي لبطليموس في الفلك، فكان ينسخها كل عام فيأتيه من أقاصي البلاد من يشتريها منه بثمن معلوم، لا مساومة فيه ولا معاودة، فيبيعها ويجعلها مئونة حياته طول سنته.
كان دائمًا يقول: “وإني ما مُدَّت لي الحياة، باذل جهدي، ومستفرغ قوتي في مثل ذلك (يقصد الدراسة وتحصيل العلوم)، متوخيًا منه أمورًا ثلاثة: أحدها إفادة من يطلب الحق ويؤثره، في حياتي وبعد مماتي، والآخر أني جعلت ذلك ارتياضًا لي بهذه الأمور في إثبات ما يتصوره ويتقنه فكري من تلك العلوم، والثالث أني صّيرته ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الهرم”.
وبعد رحلة علمية حافلة بالإنجازات، وساعدت على قيام النهضة الأوربية الحديثة، وبعد تأثير دام أثره إلى اليوم، وفي القاهرة، وفي سنة 430 هـ/1039م.. رحل ابن الهيثم عن دنيا الناس والطبيعة، وترك أعماله القيمة تنبئ عنه، وتستمد منها الحضارة الإنسانية النور والمعرفة.
– د. راغب السرجاني
[عن موقع قصة الإسلام]