إن تاريخ العلم جزء لا يتجزأ من التاريخ الإنساني، لكنه ليس هامشيا يُروى للتسلية وتمضية الوقت، بل “جاء الاهتمام بنشر تاريخ العلم والعلماء بوصفه ذاكرة بشرية عن أهم قوى دافعة لبناء الحضارات وعن عبقرية الإنسان، وقدرته على النفاذ إلى أعماق الكون الأعظم والكون الأصغر لاستيعاب قوانين الحياة الطبيعية، بما في ذلك حياة الإنسان في صورة نظريات متجددة”، حتى عُدّ “تاريخ العلم، وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات، هو التاريخ الحقيقي للإنسان، وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد”.
ورغم قدم العلم وتطوره، فإن “مبحث تاريخ العلم لم يكتمل الاعتراف به بوصفته مبحثا أكاديميا يتفرغ له دراسون متخصصون إلا في العام 1950م فقط، حيث بدأ ذلك في بعض الجامعات الأمريكية التي أنشأت لأول مرة أقساما مستقلة لتاريخ العلم”.
ومع هذا فقد تراكمت لدينا كتب حكت قصصا وحوادث عن علماء الطبيعة والملابسات التي رافقت أعمالهم العلمية إلى حد أن شاعت بعض تلك القصص بين العامة قبل الخاصة، حتى صارت تاريخا يصدقه الكل بوصفه من تاريخ العلم.
لكن بتفحّص بعض تلك القصص الرائجة سنجد أنها مجرد قصص موضوعة هدفها الإثارة أو تعظيم الشخصيات، لكنها لا تمثل الحقيقة؛ “فالتاريخ الفعلي للعلم غالبا ما يكون قليل الشبه بالأفكار المعلبة الرائجة التي تُعلّم في المدارس أو الجامعات أو الكتب الشعبية أو الوسائط الإعلامية الرائجة، وهذا ما يدعوه ستيفن واينبرج ” التاريخ الموضوع”.
وهنا سأقدم أربع قصص من تاريخ العلم نموذجا لهذا التاريخ الموضوع.
البداية من كوبرنيكوس
يكاد يُؤرخ لبداية العلم الأوروبي الحديث منذ عام 1543م؛ وهو العام الذي نشر فيه العالم البولندي نيكولاس كوبرنيكوس (1473 –1543) كتابه “دوران الأجرام السماوية”، وملخص القصة الرائجة أنه قدم في كتابه هذا نموذجا فلكيا جعل فيه الشمس مركز الكون، متخلصا من تعقيدات النموذج الفلكي البطليموسي السائد آنذاك، الذي ضم فكرة أن الأرض مركز الكون.
لكن كوبرنيكوس “ظل مترددا في إكمال نشر الكتاب الذي انتهى منه عام 1539م- حتى جاءته نسخة مطبوعة منه وهو على فراش الموت عام 1543م، دون أن يعلم كوبرنيكوس الذي كان يحتضر ، فقد حملت الطبعة الأولى للكتاب مقدمة كتبها اللاهوتي أندرو أوسياند يحاول فيها المصالحة بين محتوياته والدين المسيحي؛ على أساس أنها مجرد فروض وليست حقائق. وأكد في هذه المقدمة أن اليقين سيظل من نصيب الدين فقط، ومع هذا فقد كفّر البابا كوبرنيكوس من أجل كتابه، ونشطت محاكم التفتيش في أعقاب حائزي الكتاب ومؤيدي صاحبه”.
فهل حدث هذا حقا؟
الشواهد تقول لا!
فموضوع المركزية للشمس الذي جاء به كوبرنيكوس في أوائل القرن السادس عشر لم يكن مركز الكون يعد مكانا مرغوبا الحضور فيه؛ وكانت حجة كوبرنيكوس لذلك “هي البساطة والحسابات الأبسط بدلا من التعقيدات الرياضية لدى بطليموس”.
أما تأخره في نشر الكتاب لخوفه من الرد والكنيسة، “فليس من دليل على أن كوبرنيكوس كان معنيا كثيرا بمخاطرة اضطهاد الكنيسة له لو نشر أفكاره بشكل رسمي أكثر، وحقيقة الأمر أن يوهان فبدمانشتاد سكرتير البابا قدّم عرضا لمسودة الكتاب في محاضرة بالفاتيكان حضرها البابا كليمنث والعديد من الكاردينالات”.
أما سبب هذا التأخر فهو انشغال كوبرنيكوس، وعدم قيامه بعملية رصد حتى يجيب عن الحجج التي ستصدر ضد نظريته، “والغريب أن كثيرا من المقاومة الأولى لنموذجه أتى من المجتمعات الفيزيائية والفلكية، وليس من الكنيسة الكاثوليكية”، فقد “نشر الكتاب من دون حدوث أي لغط أو تذمر من جانب الكنيسة الكاثولوليكية، وتغاضت روما كثيرا عن الكتاب طوال حقبة القرن السادس عشر”، و لم تبدأ حربها ضد الكتاب إلا عام 1600م، وبالتحديد عام 1610م.
أما قصة تسلم كوبرنيكوس نسخة من كتابه وهو على فراش الموت عام 1543م، كما جاء في قصة الحضارة “ووصلت إحدى نسخ الكتاب الأولى إلى يد كوبرنيكوس في 24 مايو 1543م، وكان على فراش الموت، فقرأ صفحة العنوان، وابتسم، ثم مات في الساعة نفسها” فهي بدورها قصة مصطنعة؛ لأنه “مات كوبرنيكوس بعد شهرين من نشر الكتاب”.
أكثر الناس التصاقا بنظرية كوبرنيكوس كان جوردانو برونو (1548 ـ 1600) الذي أُحرق على الخازوق لكونه من مروجي نظرية كوبرنيكوس، حتى عُدَّ أول شهداء الثورة العلمية!
فهل هذا صحيح؟
الواقع أن “برونو أدين بسبب هرطقات أخرى تمس العقيدة المسيحية، وليس لأنه من أنصار كوبرنيكوس”.
جاء في قصة الحضارة عن إحراق بورنو: “لم يرد في أوراق المحاكمة ذكر لآراء برونو في نظريات كوبرنيكس، بل أن الهرطقة انصبت على التجسيد والتثليث، وسمح له بأربعين يوماً أخرى للاعتراف بأخطائه”.
أما سبب حشر نظرية كوبرنيكوس في الأمر، فلأن برونو اتكأ عليها في الترويج لمعتقده الديني الهرمسي، حيث “رأى برونو أن كوبرنيكوس مجرد رياضي متمكن، ولم يفقه المعنى الحقيقي لاكتشافه- أي المعنى الفلسفي”، وهذا ما رأته الكنيسة هرطقة.
قصص حول جاليليو
هناك قصص عديدة رويت عن العالِم جاليليو جاليلي (1564 – 1642)، ومنبعها هو كتابات تلميذه فينسينزو فيفياني “وهو شاب عمل ناسخا كاتبا لجاليليو وتلميذا مخلصا له لاحقا بعد أن كف بصر العجوز، وغالبا ما بالغ في وصفه للحظات العظيمة في حياة أستاذه”، وهو كاتب سيرة جاليليو عام 1654م أي بعد 12 عاما من وفاة جاليليو نفسه!
ومن هذه القصص:
- قصة أن جاليليو ألقى من أعلى برج بيزا المائل أثقالا مختلفة ليبين أنها ستصل إلى الأرض في الوقت نفسه ردا على أرسطو الذي رأى أن الجسم الأثقل سيصل أولا، لكن جاليليو يرى “أن الفرق الزمني بين سقوط جسمين وزن أحدهما ضعف وزن الآخر، هو لا شيء البتة، أو أنه فرق ضئيل جداً لا يمكن إدراكه”.
هذه القصة التصقت بجاليليو حتى أن الدكتور صبري الدمرداش عرض للقصة بشكل درامي طويل في كتابه “الطرائف العلمية : مدخل لتدريس العلوم”.
لكن الحادثة لم يقم بها جاليليو؛ فهو “نفسه لم يذكر شيئاً عن تجربة بيزا في كتاباته الباقية، كما أنه لم يرد ذكرها فيما دونه من معاصريه في 1612م و 1641م عن تجاربهما الخاصة بهما في إسقاط أجسام مختلفة الوزن من فوق البرج المائل، ورُفضت قصة فيفياني من بعض الباحثين في ألمانيا وأمريكا وعوملت على أنها أسطورة”.
أما الذي قام بهذه التجربة – كما يقول جون جريبين – فهو مهندس فلندي “يدعى سيمون ستيفن هو الذي أجرى بالفعل العام 1586م مثل هذه التجارب مستخدما أثقالا من الرصاص، وألقاها من أعلى برج على ارتفاع نحو عشرة أمتار، وقد نشرت نتائج هذه التجارب، ونعتقد أن جاليليو ربما علم بها”.
2- لعل أشهر عبارة منسوبة لجاليليو هي عبارته ” ولكنها تدور” التي يشاع أنه تمتم بها بعد خروجه من قاعة المحاكمة التي أقيمت له لقوله أن الأرض تدور.
لكن ” ليس من دليل على الإطلاق أنه تمتم قائلا عبارته الشهيرة “ولكنها تدور” !
إذ لو قالها وسمعه من حوله لتم مط جسمه يقينا على آلة التعذيب المسماة “المخلعة” أو وضعوه فوق الخازوق وربما الاثنان معا”. ويضيف صاحب قصة الحضارة “إنها أسطورة لم يظهر لها أثر قبل 1761م”.
أخيرا مع نيوتن
أول القصص المرتبطة بنيوتن هي توافق سنة ميلاد إسحق نيوتن 1642مع السنة نفسها التي مات فيها جاليليو، “ولكنها مصادفة بنيت على خدعة – استخدام تاريخين من تقويمين مختلفين – إذ مات جاليليو يوم 8 يناير 1642 وفق التقويم الجريجوري، هذا بينما إسحق نيوتن مولود في يوم 25 ديسمبر العام 1642 وفق التقويم الجولياني (أي التقويم القديم) الذي مايزال مستخدما في إنجلترا وغيرها من البلدان البروستانتية.
ووفق التقويم الجريجوري الذي نستخدمه الآن يكون ميلاد إسحق نيوتن في 4 يناير من العام 1643م”، هكذا لم يقع الحدثان في عام واحد.
أما أشهر قصة ارتبطت بنيوتن هي قصة سقوط التفاحة التي ألهمته فكرة الجاذبية كما هو شائع، وأقدم رواية لهذه القصة – كما يورد صاحب قصة الحضارة – هي ما كتبه فولتير في كتابه “فلسفة نيوتن” (1738) قائلا:
“ذات يوم من أيام 1666م، حين كان نيوتن معتكفاً في الريف رأى ثمرة تسقط من شجرة كما أخبرتني بنت أخته السيدة كوندويت، فاستغرق في تفكير عميق في السبب الذي يجذب جميع الأجسام في خط إذا مر قريباً جداً من مركز الأرض”.
لكن هذه القصة لم ترد في كتب مترجمي نيوتن القدامى، ولا في روايته لكيفية اهتدائه لفكرة الجاذبية الكونية، والفكرة السائدة اليوم عن القصة أنها أسطورة، وأرجح منها قصة أخرى رواها فولتير، وهي أن غريباً سأل نيوتن كيف اكتشف قوانين الجاذبية، فأجاب “بإدمان التفكير فيها”.
خلاصة فإن القصص المشابهة لما سبق ذكره عديدة في تاريخ العلم، وهكذا نجد فيه أن “التاريخ الحقيقي أكثر تعقيدا، لكنه أيضا أكثر إثارة للاهتمام”.
المراجع:
- جريبين، جون . تاريخ العلم، ترجمة : شوقي جلال ، ج1، العدد 389(الكويت: سلسلة عالم المعرفة ، يونيو 2012).
- الخولي ، يمنى طريف . فلسفة العلم في القرن العشرين، العدد 264(الكويت: سلسلة عالم المعرفة ، ديسمبر 2000).
- سنيغام ، مانو . “الأساطير الكوبرنيكية”، ترجمة : معين رومية، مجلة الثقافة العالمية ، العدد 155 (الكويت : أغسطس 2009).
- الدمرداش ، صبري . الطرائف العلمية مدخل لتدريس العلوم، ط7 (القاهرة : دار المعارف، 2008).
- ديورَانت ، وِل . قصة الحضارة، ترجمة: الدكتور زكي نجيب محمُود وآخرون، مج42 (لبنان: دار الجيل،1988)، ج27،30،33.