طوال تاريخ العلوم حاول العلماء جاهدين مقاربة مفهوم الزمن من مختلف زوايا النظر، و لكن لم تستطع أي من نظرياتهم أن تشمله. في هذا المقال سنسافر بكم عبر الزمن لاستكشاف أربع مقاربات لعلها الأبرز على مر التاريخ.
الزمن المطلق: حين يصير الماضي و المستقبل وجهين لعملة واحدة
قام إسحاق نيوتن في القرن السابع عشر بوصف حركة الأشياء، أو بمعنى آخر : تتبع موضعها عبر الزمن. فرمي قذيفة أو تتبع دوران كوكب تستند للمعادلات التي قام العالم البريطاني بصياغتها. لكن إذا ما تأملنا في نظريته نجد أن مفهوم الحتمية يميز بشكل كلي معادلاته، الشيء الذي يتجلى في إمكانية التنبؤ بموقع كوكب بعد قرون، و لكن أيضا العودة للسبب الذي قاد للنتيجة المحصلة. بمعنى آخر : على ضوء هذه النظرية يصير عالمنا شبيها بكرة القدم، بحيث إنه إذا تم إهمال قوى الاحتكاك يمكن لمستقبل الكرة أن يقوم بإرسالها بنفس الطريقة. والنتيجة: تتكرر الحركة عبر الزمن بنفس الشاكلة.
ولكن، هل تعكس حتمية الزمن الجلية في معادلات نيوتن واقعنا اليومي؟ لا حتما، لكون هذا الأخير يعج بمجموعة من الظواهر اللا رجعية (irreversibility) ، فكيف لكأس تكسرت أن تعود لشكلها الأصلي تلقائيا؟ و كيف لجسيمات السكر الذائبة في القهوة أن تشكل مجددا قطعة السكر؟
يقول “مارك لاشييز ري” (Marc Lachièze-Rey)، عالم فيزياء الفلك : “لقد غفلت الفيزياء النيوتونية مفهوم اللا رجعية الذي يميز غالبية الظواهر التي نواجهها”.
إذًا، فإعادة التفكير في الزمن اقتضت تحليلا دقيقا لعملية تحول قطعة السكر لمجموعات من الجزيئات الذائبة في القهوة، والذي يقتضي تتبع كل جزيئة من جزيئات السكر في السائل. ( ولمعلوماتكم، تحوي قطعة من 5.5 غرام حوالي مليون مليار مليار جزيئة : 23^10*9.7). و بناء عليه نشأت فيزياء جديدة أطلق عليها “التيرموديناميك”، أو فيزياء الظواهر اللا رجعية. كما ظهر أيضا الإحصاء كوسيلة رياضية تتماشى و هذا النوع من الفيزياء.
الزمن التيرموديناميكي: حينما يتولد المستقبل من الماضي
في القرن التاسع عشر، بعيدا عن الفيزياء النظرية، برز مفهوم اللا رجعية باعتباره ثورة فكرية في ميدان الصناعة على يد المهندس الفرنسي :”سادي كارنو”(Sadi Carnot). ففي محاولة منه لتحسين مردود الآلات البخارية، لاحظ المهندس الشاب أن انتقال الحرارة يتم دائما من الجسم الساخن إلى الجسم البارد بدون استثناء.
و هكذا قام كارنو في سن السابعة و العشرين بتحرير كتاب يؤسس لنوع جديد من الفيزياء : التيرموديناميك أو فيزياء الظواهر اللارجعية. تتميز هذه الأخيرة بكونها تتطور دائما من الماضي نحو المستقبل. و في هذا الصدد يقول العالم بمركز الفيزياء النظرية بلوميني في مارساي “كارلو روفيلي”(Carlo Rovelli): “قامت التيرموديناميك بفرض سهم على مفهوم الزمن، ليتم بذلك التمييز بين الماضي و المستقبل”.
بعدها ببضعة عقود، أطلق الفيزيائي الألماني “رودولف كلوزيوس” (Rudolf Clausius)على المقدار المميز للنظم اللارجعية اسم:”أنتروبيا”. لتصير هذه الأخيرة مبدأ بالغ الأهمية في الفيزياء، و الذي ينص على أن “أنتروبيا” نظام معزول في ازدياد متواصل. وهكذا، و لكن دون إعطاء تعريف لمفهوم الزمن، تمكنت الفيزياء من التمييز بين الماضي و المستقبل: الزمن يمضي وفقا لتزايد “الأنتروبيا”. و لكن ما هي “الأنتروبيا” ؟
للإجابة على هذا السؤال، وجب انتظار مساهمة العالم النمساوي “لودويغ بولزمان” (Ludwig Boltzmann) الذي أضفى على الظاهرة نكهة رياضيات الإحصاء. نتج عن عمله الخلاصة التالية : كلما تعددت حالات الجسيمات المشكلة لجسم معين، كلما زادت “أنتروبيته”. وبناء عليه تم ربط “الأنتروبيا” بحالة الفوضى لتصير مفهوما واضحا و ملموسا. وهكذا يمكن القول بأن الفيزيائيين استطاعوا تسجيل هدف (أو سلة لمحبي كرة السلة) والتقدم خطوة نحو الأمام، في محاولة مقاربة الزمن، باعتباره يمكن الظواهر اللارجعية من الحدوث. ولكن لنتريث قليلا : هل تتولد اللارجعية من الزمن أو العكس ؟ يقول “أليكسيس دي سان أورس”(Alexis de Saint-Ours)، فيلسوف علوم بجامعة “باريس ديدرو”(Paris-Diderot): “لكن اليوم ،بعد إينشتاين، يمكن القول إن الزمن قد يكون الوهم المختلق من طرف الظواهر اللارجعية”
الزمن الإحصائي: يختفي على المستوى الميكروسكوبي
لماذا توجد ظواهر لا رجعية، أو بتعبير آخر ظواهر ذات منحى وحيد؟ لفهم ذوبان قطعة السكر في القهوة يجب تتبع جزيئاته على المستوى الميكروسكوبي. ولكن هذا يحيلنا على ملاحظة غريبة : حركات الجسيمات الميكروسكوبية رجعية. فجزيئات غاز متواجد في علبة تتحرك في جميع الاتجاهات بشكل متغير مصطدمة بجوانب وأسطح العلبة بشكل متواصل. ولكن فور فتح العلبة ينتشر الغاز في الغرفة بطريقة يستحيل معها عودته للعلبة مجددا بشكل تلقائي. إذًا، كيف تصير الظواهر الرجعية على المستوى الميكروسكوبي ظواهر لا رجعية على المستوى الماكروسكوبي؟ في محاولة يائسة ، حاول العالم “بولزمان” تفسير هذه الملاحظة ليتعرض للسخرية والانتقاد الشديدين، قبل ان ينتحر في سن الثانية والستين.
فإذا كان الزمن قرينا للظواهر اللا رجعية، فهذا يعني أنه يختفي على المستوى الميكروسكوبي؟ فهل يعد الزمن مجرد وهم ؟
الزمكان : لكل واحد منا زمنه
في نهاية القرن التاسع عشر، حاول الفيزيائيان “ألبرت ميكيلسون”(Albert Mickelson) و “إدوارد مورلي”
(Edward Morley) قياس سرعة الضوء. لكن ما تم اكتشافه كان تناقضا صارخا لقوانين الفيزياء المسلم بها آنذاك : بالرغم من تغيير مرجع الملاحظة، تظل سرعة الضوء ثابتة بدون تغير يذكر !!! لكن كان لآينشتاين رأي آخر، الشيء الذي دفعه لاتخاذ نتائج التجربة على محمل الجد. فكانت له الشجاعة والجرأة على تحدي فكرة الفضاء و الزمن المطلقين. يقول “مارك لاشييز ري” : “مع آينشتاين، فقد الزمن صفته المطلقة بشكل نهائي” .و ذلك كون الزمن و الفضاء يتحدان ليشكلا شيئا واحدا، ألا و هو “الزمكان”.
بصيغة أخرى، الثانية قد لا تدوم ثانية دائما و الدقيقة قد لا تدوم دقيقة دائما والساعة قد لا تدوم ساعة دائما. الشيء الذي قد يبدو ضربا من الجنون، و لكن كون سرعة الضوء ثابتة (299792458 متر في الثانية) يجعل الزمن بالضرورة يتباطأ بالنسبة لمرجع متحرك بالمقارنة مع مرجع ثابت (السرعة = المسافة على الزمن) لدرجة أن الزمن يتوقف تماما في حالة بلوغ سرعة الضوء. والنتيجة المحصلة : لكل واحد منا زمنه الخاص.
و في الأخير إليكم مني هذه الهدية، يقول آينشتاين : “من المتوقع جدا أنه وراء ما تدركه حواسنا، توجد عوالم لم نكن لنتصورها”.
المصدر: Sciences et avenir N°806
إعداد و ترجمة : سعيد الفراشي
التدقيق اللغوي: علي توعدي