ما سر وفاء الكلاب للإنسان ؟ (الجزء الأول)

لطالما اعتُبرت الكلاب واحدة من الكائنات الأكثر وفاء للإنسان، إن لم تكن أوفاها جميعا. فعلى مر العصور كانت الكلاب خيار الإنسان الأول في نواحِِ عديدة من حياته اليومية، إذ ائتمنها مُلّاكها على حياتهم وعائلاتهم، وأصبحت بعدها رفيقتهم في الصيد ورعي الغنم والماشية. وهذا أساسا راجع لسهولة ترويضها ووفائها اللا مشروط.

ومع تطور الحياة أصبحت الكلاب تحتل مكانة أكبر فأكبر، فمن حماية مالكيها وعائلاتهم، أضحت اليوم عاملا رئيسيا في حماية أمن بلدان بأكملها. فمن سلك الشرطة، حيث تعد رادعا قويا ضد تهريب المخدرات واكتشاف المتفجرات، إلى قوات الجيش، حيث تستخدم كمنقب أساسي عن الأسلحة المهربة والألغام المزروعة في ساحات القتال.

وفي الحياة اليومية تعتبر الملجأ الأول لدى العديد من الناس، سواء كرفيق منزلي للاستئناس أو لإنجاز بعض المهام المنزلية خصوصا لذوي الاحتياجات الخاصة، كفاقدي البصر الذين يستعملون الكلاب كأعين بديلة لتسهيل حياتهم اليومية.

 كل هذا جعل للكلاب مكانة هامة في حياة الإنسان ومحيطه. لكن هل تساءلتم يوما ما الذي يجعل الكلاب وفية لهاته الدرجة ؟

للإجابة عن هذا السؤال، نعود أولا إلى المراحل الأولى من تدجين الكلاب. 

الكلاب وأسلافها من الذئاب

يسري الاعتقاد السائد بين العلماء أن الكلاب الحديثة تنحدر أساسا من سلالة قديمة من الذئاب. وذلك للتقارب الكبير بينها في نمط العيش والغذاء، وأيضا في بعض الخصائص الفيزيولوجية، إذ تشير العديد من الدراسات أن الكلاب تطورت عن الذئاب الرمادية منذ ما يقارب 14000 إلى 15000 سنة. وهناك مِنَ العلماء مَنْ يُرَجّح قدم هذا التطور إلى أكثر من 135000 سنة. كما أن هناك بعض الفرضيات تزعم أن الكلاب الحديثة هي نتاج لتزواج الذئاب والكلاب القديمة عبر التاريخ. لكن الأمر الأكيد، أن الكلاب والذئاب الرمادية تنحدر من سلف مشترك.

ويعتقد العلماء أن تدجين الكلاب الحديثة اليوم قد بدأ بتدجين أسلافها من الذئاب، إذ عند بحث هذه الأخيرة عن مصادر للغذاء وجدت في الصيد البشري مصدرا وفيرا للاقتيات. ما جعلها تدرك في مرحلة ما أن مبدأ الكسب المتبادل قد يساعد جنسها على الاستمرار. 

لكن ما زال العلماء في جدال مستمر حول سبب نزوع الإنسان إلى قبول هذا المبدأ، وما هو أساسا مكسب الإنسان من هذا التعامل. فبعضهم يرجح كفة الحماية، فيما يرى آخرون أن السبب الأساسي هو بحث الإنسان الدائم عن الرفقة. وبهذا حصلت الذئاب التي أصبحت كلابا أكثر قبولا من طرف البشر، على مصدر وفير من الطعام.

عززت تقنية البقاء هذه مكانها في جينات الذئاب. ومع مرور الوقت وتكاثرها وسط محيط الإنسان، أصبحت أكثر قبولا للتدجين. وقد يكون الإنسان مساهما في اختفاء الذئاب غير القابلة للتدجين من خلال تنحيتها عن القطيع والاحتفاظ فقط  بالعناصر المدجنة.

لكن كيف أصبح الذئب المدجن على هيأته الحديثة كلبا أليفا ؟

الجينات سبب في ولاء الكلاب 

يمكن أن تساعدنا الدراسة التي أجريت على الثعالب في فهم كيفية حصولنا على الكلب في هيأته الحديثة. ففي هذه الدراسة، وجد العلماء أنه كلما أصبحت الثعالب مدجنة، كلما ساهم ذلك في تغير مستويات هرموناتها. وعلى وجه التحديد مستويات الإجهاد الكظري (Adrenal Stress). إذ ارتبط انخفاض مستويات هذا الهرمون بتغير لون فرو الثعالب المدجنة وكثافته. ليس هذا فقط، فمع استمرار العلماء في تدجين المزيد من الثعالب، لاحظوا تغيرات على مستويات عديدة، كشكل الآذان التي أصبحت أكثر مرونة، وتجعدات على مستوى الذيل، وأيضا تغيرات على شكل وحجم الجمجمة. ما جعلهم يستنتجون أن التغيرات السلوكية والبيئية تؤثر بشكل واضح على المظهر الجسدي للثعالب.

ومع مرور الزمن، وبالرغم من عدم استيعاب البشر قديما لمفهوم التربية الانتقائية، إلا أنهم استعملوه دون قصد، ما جعل العلماء يظنون بأنه كان سببا رئيسًا في تطور الكلاب. فهناك فرضيات تشير إلى أن البشر سابقا كانوا يقتلون الكلاب الشرسة التي تعمد إلى مهاجمتهم أو أحد أفراد محيطهم. كما أنهم كانوا يتخلصون من الكلاب التي لا تجيد الصيد، ويحتفظون بالعناصر التي تلبي حاجياتهم اليومية في الرعي والصيد ويعتنون بها جيدا، الشيء الذي يزيد فرص تكاثرها بشكل أكبر. كما تشير الفرضيات أن البشر كانوا يلاحظون هذه الخصائص عند الجِراء، فيحتفظون بالجِراء الملائمة لهم، ويتم التخلص من الجِراء العدوانية وغير القابلة للترويض. 

وفي مقابل ذلك، هناك علماء يختلفون في الخط الزمني لتطور الذئاب إلى الكلب الحديث، حيث أشارت دراساتهم إلى نظريتين بديلتين. فباعتبار أن الكلاب قد أصبحت مدجنة منذ أزيد من 135000 سنة، يرجَّح أنها قد أخذت مكانا رئيسًا في حياة البشر للعناية بهم. وبالرجوع إلى الخط الزمني الحديث، فمن الوارد أن يكون الغرض من تدجين الكلاب قديما هو الحراسة أو الرفقة.

وفي كلا الحالتين، فإن الحقيقة المؤكدة اليوم، أن الكلاب الحديثة تتشارك والذئاب القديمة في العديد من الجينات. من بينها الجين (WBSCR17)، وهو جين مشترك أيضا مع الإنسان.

ورغم أن الجدل ما زال مستمرا حول طبيعة الجين المسؤول عن كون الكلاب ودودة ووفية، إلا أن إحدى الدراسات التي أجرتها البروفيسور (Bridgett vonHoldt)، وهي عالمة الأحياء التطوري في جامعة “برينستون بنيو جيرسي”، قد أعزت هذا السلوك إلى الجين (WBSCR17) بالإضافة إلى جينين آخرَيْن. هذه الدراسة قارنت بين سلوك 18 كلبا و 10 ذئاب تمت تربيتها والعناية بها مجتمعة في ظروف مماثلة. وقد أظهرت أن الكلاب عموما كانت تبدي اهتماما متزايدا بمربيها مقارنة بالذئاب، لتصبح مع مرور الوقت ودودة أكثر فأكثر. إلا أنه برزت بعض العناصر من الكلاب التي احتفظت ببعض العدوانية، وفي المقابل كانت هناك حالات من الذئاب التي طورت علاقة ودية مع مربيها.

بعد دراسة الحمض النووي لـ 16 عينة من الكلاب و 8 عينات من الذئاب، أظهرت النتائج تغيرات طرأت في الجين (WBSCR17) والجينيْن الآخريْن. هاته التغيرات همت بالأساس هيكل هاته الجينات ووجود سلاسل إضافية من الحمض النووي عند الكلاب والذئاب الودودة، بينما تفتقر إليها الكلاب والذئاب العدوانية.

هذه الدراسة جعلت الأمر منطقيا أكثر من حيث التدجين والتكاثر الانتقائي. ما يجعلنا نتساءل الآن :

هل قام البشر بتربية الكلاب الوفية بشكل انتقائي ؟

الإجابة عن هذا السؤال وغيره، ستجدونها في الجزء الثاني من هذا المقال خلال الأيام المقبلة.

دائما على موقعكم المغرب العلمي.

كونوا في الموعد.

_________________________________

المصادر :

هذا النص هو ترجمة للمقال :

 Why Are Dogs So Loyal? The Scientific Explanation

بتصرف

تمت مراجعة جميع مصادر هذا المقال، وهي متضمنة في النص عبر روابط (Liens Hpertextes)