“الميتوكوندريا” … هل نرثها من الأب أيضا ؟؟

“الميتوكوندريا” هي مصنع الطاقة داخل الخلايا الحيوانية، و هي عبارة عن عضيات ذات بنية شبيهة بالبكتيريا. و إذا استثنينا خلايا الدم الحمراء، فإن كل خلية حيوانية تمتلك بضع مئات من مصانع الطاقة هذه. و بشكل عام، يسود الاعتقاد بأن “الجينوم الميتوكوندري” يتم توريثه من جهة الأم بشكل حصري، و ذلك بسبب طبيعة الإخصاب. فأثناء تكوين الحيوان المنوي، يتم التخلص من “السيتوبلازم”، و بالتالي لا يساهم الحيوان المنوي إلا بنصف “الجينوم الكروموسومي”، في حين تساهم البويضة بالنصف الآخر و بـ “السيتوبلازم” الذي يحتوي على “الميتوكوندريا”.

و بالرغم من أن هذا الاعتقاد كان موضوعا لبعض النقاش الطفيف، إلا أنه لم يتم إثبات ما ينفيه. لكن دراسة منشورة قبل عدة أشهر في الولايات المتحدة، أظهرت أن “الميتوكوندريا” قد يتم توريثها من جهة الأب. في هذه الدراسة قام فريق البحث بتتبع انتقال “الجينوم الميتوكوندري” عبر عدة أجيال، و ذلك لدى ثلاث عائلات منفصلة لا تربطها أي قرابة. و توصلت الدراسة إلى أن “الميتوكوندريا” الأبوية موجودة لدى 17 فردا من العائلات الثلاثة، و أن نسبتها تصل لدى بعض الأفراد إلى 76 بالمائة. و تسمى هذه الظاهرة بالتغاير “السيتوبلازمي”. و قد تم هذا الاكتشاف بشكل عرضي أثناء دراسة مرض وراثي مرتبط بـ “المتوكوندريا”.

و تجدر الإشارة إلى أن بعض أنواع الطحالب تتميز بنمط أبوي لتوريث “الميتوكوندريا”، كما أن الأصل الثنائي (التمايز “السيتوبلازمي”) قد تم اكتشافه لدى كثير من الأنواع، مثل الفئران و الخراف و ذبابة الخل “دروزوفيلا”، لكن بنسب ضئيلة. كما تجدر الإشارة إلى أن التغاير “السيتوبلازمي” تم الكشف عنه بنسبة محدودة لدى بعض الأجنة البشرية الناتجة عن التلقيح الصناعي، كما تم اكتشافه في الأنسجة المريضة عند حالة معزولة، في حين لم يتم أي اكتشاف مماثل لدى الإنسان، وخاصة لدى الأجنة الطبيعية و الأفراد المعافين في أي دراسة متقدمة على هذا البحث.

الشجرة الجينية لإحدى العائلات المدروسة: الأشكال المملوءة تمثل الأفراد الحاملين للتغاير “السيتوبلازمي” (المصدر : نفس الدراسة)

و على العموم، ما يزال “الميكانيزم” الجيني الذي يتحكم في الظاهرة يكتنفه الغموض، و مع هذا فقد أظهرت الدراسة أن الجينة المسؤولة عن التمايز “السيتوبلازمي” تخضع لنمط الوراثة الجسدية السائدة. حيث إن الأليلات تنقسم إلى سائدة و متنحية، مع سيادة الأليل المسؤول عن الصفة موضوع البحث. و يحول هذا الأخير دون تخلص الحيوان المنوي من “السيتوبلازم” المحتوي على عضيات الطاقة. و هذه من الخلاصات الهامة في الدراسة، حيث إن ذلك يتيح التحكم في الأمراض الوراثية المرتبطة بـ “الميتوكوندريا”، و ذلك بطريقة طبيعية، و دون اللجوء إلى وسائل اصطناعية مثيرة للجدل، مثل توليد الأجنية ثلاثية الآباء. و في حالة المرض الوراثي الذي انطلقت منه الدراسة، لا تظهر أعراض المرض إلا إذا بلغت نسبة العضيات الحاملة للحليل الطافر و الممرض ثلاثي “الكوندريوم” (مجموع “الميتوكوندريات” داخل الخلية)، لذا يقل احتمال الإصابة بالمرض لدى الأفراد ذوي التمايز “السيتوبلازمي”.

و بسبب الجِدَّة التي يمتاز بها الاكتشاف فقد أعيدت الدراسة في أربعة مختبرات منفصلة، في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تم التحقق من وجود “الميتوكوندريا” الموروثة من الأب باستعمال مقاربات مختلفة.

و في الختام، فالدراسة المعنية لا تنقض الاعتقاد السائد بشأن توريث “الميتوكوندريا”، لكنها أظهرت وجود استثناءات على القاعدة. و من جهة أخرى، فإن اكتشاف هذه الظاهرة يلقي بعض الضوء على كثير من الأمراض الوراثية المرتبطة بـ “الميتوكوندريا”، و التي كانت تبدو غامضة و غير مفهومة. كما يفتح قنوات جديدة للبحث عن علاجات مبتكرة.

المصدر

Luo, Shiyu, Valencia, C. Alexander, Zhang, Jinglan, et al.Biparental inheritance of mitochondrial DNA in humans. Proceedings of the National Academy of Sciences, 2018, vol. 115, no 51, p. 13039-13044.

مصادر أخرى

St John, J., D. Sakkas, K. Dimitriadi, A. Barnes, V. Maclin, J. Ramey, C. Barratt and C. De Jonge (2000). “Failure of elimination of paternal mitochondrial DNA in abnormal embryos.” The Lancet 355(9199): 200.

Schwartz M, Vissing J (2002) Paternal inheritance of mitochondrial DNA. N Engl J Med 347:576–580