المادة و المادة المضادة

في عام 1930 قام بول ديراك بصياغة نظرية كمومية لحركة الإلكترونات في المجالات الكهربائية والمغناطيسية، وهي النظرية الأولى التي تضمنت بشكل صحيح نظرية أينشتاين للنسبية الخاصة في هذا السياق. أدت هذه النظرية إلى توقع مفاجىء للمعادلات التي وصفت الإلكترون أيضا، وفي الواقع، توقعت وجود نوع آخر من الجسيمات بنفس كتلة الإلكترون بالضبط ولكن مع شحنة موجبة بدلا من الشحنة الكهربائية السالبة. هذا الجسيم، الذي يسمى بوزيترون، هو الجسيم المضاد للإلكترون، وكان المثال الأول لمضادات المادة.
أظهرت صورة غرفة سحابية التقطها كارل د. أندرسون في عام 1931 وجود جسيم يدخل من أسفل ويمر من خلال لوحة من مادة الرصاص. يشير اتجاه انحناء المسار، الناتج عن المجال المغناطيسي، إلى أن الجسيمات كانت مشحونة بشكل إيجابي ولكنها بنفس الكتلة والخصائص الأخرى للإلكترونات. تنتج التجارب اليوم بشكل روتيني أعداد كبيرة من البوزيترونات. كما أنه لا ينطبق توقع ديراك على الإلكترون فقط بل على جميع المكونات الأساسية للمادة (الجسيمات). وبعد اكتشاف “المادة المضادة”، أعاد الفيزيائيون في واقع الأمر تعريف معنى كلمة “المادة”. وحتى ذلك الوقت، كان المقصود من “المادة” أي شيء يشغل حيزا في الفضاء و له كتلة. ومن خلال إضافة مفهوم المادة المضادة باعتبارها متميزة عن المادة، ضيق الفيزيائيون تعريف المادة بحيث ينطبق على أنواع معينة فقط من الجسيمات، بما في ذلك جميع تلك الموجودة في التجارب اليومية.
لا يوجد فرق جوهري بين المادة و المادة المضادة؛ فهي تظهر بشكل أساسي على نفس الأساس في جميع نظريات الجسيمات. وهذا يعني أن قوانين الفيزياء الخاصة بالمادة المضادة تكاد تكون مماثلة لقوانين المادة أوالجسيمات, وأي اختلاف هو اختلاف ضئيل. ولكن من المؤكد أن هناك فارقا كبيرا في أعداد هذه المواد التي نجدها في العالم من حولنا. ومن المعلوم اليوم أن أي مادة مضادة ننتجها في المختبر سرعان ما تختفي لأنها تلتقي مع جزيئات المادة لتتبدد.
إن النظريات الحديثة لفيزياء الجسيمات وتطور الكون تشير، أو حتى تتطلب، إلى أن المادة المضادة والمادة كانتا شائعتين بنفس القدر في أقرب مراحل الركود الكوني، فلماذا تكون المادة المضادة غير شائعة إلى هذا الحد اليوم؟ عدم التوازن الملحوظ بين المادة والمادة المضادة هو لغز لا يزال يتعين تفسيره. وبدون ذلك، سيكون الكون اليوم بالتأكيد مكانا أقل إثارة للاهتمام، فعمليات الابادة كانت ستحول كل شيء إلى إشعاع كهرومغناطيسي بحلول الان. ومن الواضح أن هذا الاختلال هو من الممتلكات الرئيسية للعالم الذي نعرفه. إن محاولات شرحه مجال نشط من مجالات البحث اليوم في العالم لمعرفة سبب تواجد المادة بأعداد كبيرة و كبيرة جدا مقارنة بمضادات المادة.
ومن أجل الإجابة على هذا السؤال، يتعين علينا أن نفهم بشكل أفضل أن جزءاً ضئيلاً من قوانين الفيزياء التي تختلف بالنسبة للمادة والمادة المضادة؛ وفي غياب مثل هذا الفارق فلن يكون هناك أي سبيل لحدوث اختلال في التوازن. وهذا التمييز هو موضوع الدراسة في عدد من التجارب حول العالم التي تركز على الاختلافات في دزئات الجسيمات التي تسمى “ب-ميوسونز” وشركاؤها في الجسيمات المضادة. سيتم إجراء هذه التجارب في منشآت مصادمات الإلكترون و البوزيترون B وفي مصادمات هادرون عالية الطاقة، لأن كل نوع من المنشآت يوفر قدرات مختلفة للمساهمة في دراسة هذه التفاصيل من قوانين الفيزياء.

المراجع:
• R. Michael Barnett of the Lawrence Berkeley National Laboratory and Helen Quinn of the Stanford Linear Accelerator Center from their book “The Charm of Strange Quarks “.2000, DOI: 10.1007/978-0-387-21534-1
• Kaku M. Physics of the Impossible. first edit. Doubleday; 2008.

تدقيق: الحسين أطركي