image_pdfimage_print

نشأ البحث في مكونات المادة وتركيبها عن دافع قوي يغذيه الفضول البشري؛ كان ذلك حاجة فطرية وطبيعية يميل إليها العقل البشري؛ فمنطق البشر كان يحتم وجود جزء للكل ووجود جوهر للظاهر، فلا وجود للمادة دون وجود وحدات تركيبية تؤسَّس عليها. فتحدث فلاسفة الإغريق عن ضرورة وجود وحدة أساسية أو جوهر أولي تتألف منه المواد، وبحث فلاسفة العصر الوسيط في منطق الجوهر المنفرد والجزء الذي لا يتجزأ، وظل البحث في الذرات وخواصها فرعا من فروع الفلسفة لا علاقة له بالمنهج العلمي. بعد أن استدل العالم الإنجليزي “دجون دالتون” في القرن التاسع عشر بالتجربة العلمية ونتائج التفاعلات الكيميائية على وجود الذرة، وانبثق مفهوم الجزيئة أي التـآلفٌ بين ذرتين أو أكثر (كالماء مثلا، فهو جزيئة مكونة من ذرتي هيدروجين وذرة أوكسيجين).

shutterstock_64689388

science.ma

ظل الافتراض القائل بأن الذرة هي أصغر وحدة تركيبية للمادة شائعــاً ( حتى أن دلالة الاسم Atom عند الإغريق ترمز إلى الجزء الذي لا يقبل التجزئة! ) لــكن مع بدايات القرن العشرين أثبتت تجارب علماء الفيزياء، وعلى رأسهم ماري كوري، أن بعض الذرات تتفتت تلقائيا ، مثل ذرات اليورانيوم والراديوم وغيرهما من العناصر ذات النشاط الإشعاعي، فكيف يمكن للجزء أن ينقسم إلى أجزاء؟!

كــان ذلك سببا في تجاوز النظرية الذرية، فحل محلها انفتاح جديد داخل عالم الذرة الذي حسم في كونها قابلة للانقسام لتبدأ مســيرة البحث مجددا عن اللّــبـنة الأساسيــة للمــادة. واصــل العلماء البحث عن وحدة أساسية جديدة لمكونات المادة والذرة على وجه الخصوص. انكبّـت المجهودات على محاولة سبر أغوار عوالم الذرة التي يكتنفها الغموض، سيما بعد اكتشافهم لمفاجآت تثير الغرابة ككمية الطاقة الهائلة التي تختزنها الذرة، حيث أن غراما واحدا من المادة العادية يحتوي على طاقة كبيرة تمكن من تحريك قطار وزنه مئات الأطنان حول الكرة الأرضية كاملة. في أوائــل القرن العشرين كانت البروتونات و النترونات من أوائل الجسيمات دون الذرية التي اكتشفت وسميت بالنويدات التي تكون أكثر من 99.9% من مادة الكون أما النسبة المتبقية فهي للإلكترونـات .

 

تــوالى بعد ذلك اكتشاف العديد من الجسيمات الأساسية الأخرى، مما أدى إلى تطوير نموذ جديد يسمى “الكوارك” ؛ يمكننا القول عند هذا المستوى على أن الكوارك هي ضالّة العلماء، فالكواركات إلى هنا هي ذلك الجزيء المبحوث عنه، وبالتالي فهي اللبنــة الأساسية للمادة .

في البداية قسمت الكوارك إلى ثلاثة أنواع : الكوارك العلوي Up، والكوارك  السفلي Down، ثم الكوارك الغريب Strange. من خلال تآلفات خاصة للكوارك يمكن استنتاج خواص مختلفة للنويدات .اعتبرت الكوارك في بادئ الأمــر مجرد تسهيلات رياضية مجردة فقط، أو محاكاة نظرية لوصف التأثيرات البينية داخل المادة، وليست دقائق حقيقية لكون ملاحظتها أو تتبع أثرها تجريبيا أمر بعيد المنال . لكن مع الخطى العملاقة التي تتقدم بها العلوم والتكنولوجيات الدقيقة، أدت التجارب داخل المختبرات، على جسيمات عالية الطاقة، إلى تقديم دلائل متماسكة على أن الكوارك كائنات حقيقية بالفعل و ليست مجرد محاكاة يستدعيها البرهان الرياضي .

أصبحت عائلة الكوارك تضم أنواعا جديدة كالكوارك الأنيق Charm ،الكوارك السامي Top، ثم الكوارك العميق Bottom. عائلة الكوارك لحد الآن مكونة من ستة أفراد لكل منهم خصائص منفردة تميزه عن أقاربه الآخرين.

 اقترح الفيزيائي الأمركي “أوسكار غرينبرغ” سنة 1963 وجود ألوان مميزة لتلك الكوارك  فأمكن ذلك من حل الكثير من الإشكاليات العالقة التي تعذر حلها في صيغتها الأولية التي وضعت بها؛ هنا كانت ولادة علم جديد “علم الكروموديناميكا الكوانتية” !

و بناء على هذا العلم الجديد يكون لأفراد عائلة الكوارك البدائية ستة “كواركات” أخرى مقابلة لها تحمل إشارات مقابلة ، فيصبح عدد الكوارك 12، ثم بحسب ماجاء به “غرينبرغ” كل كوارك يأخد لونا من ثلاثة ألوان اصطلاحية مختلفة، وبالتالي سيكون المجموع هو 36 كواركا مختلفا !

و هكذا دواليك تستمر التحديثات لنجد أن عدد الجسيمات الأساسية و مقابلاتها قد وصلت الآن  إلى عدة مئات صنفت إلى مجموعات بحسب كتلتها أو حسب متغيرات أخرى ؛ فأصبحنا نسمع عن الليبتونات و الميزونات و الباريونات و الهادرونات … لنجد أن أسماء من قبيل ذرة وجوهر وجسيمات أولية أصبحت متجاوزة، فهي تاريخية فقط ولا تحمل المعنى المراد منها لغويا.
المصــادر :4،1،2،3


الكاتب: نورة أبليق