image_pdfimage_print

الإنسان كائن سؤول بطبعه، تدفعه لذلك شهوة المعرفة.

والسؤال هو مفتاح البحث العلمي الرصين، فنحن لو راجعنا تاريخ العلوم لوجدنا أن كثيرا من العلوم بدأت بسؤال!

مجرد سؤال، المهم أن يكون السؤال صحيحا، ولو كان بسيطا.

لأن هذا السؤال البسيط سيكون طرف الخيط الذي يفضي إلى تساؤلات أعقد، تنفذ إلى غموض ومجاهل الكون من حولنا.

فطرح السؤال هو أولى خطوات العلم؛ يقول د فؤاد زكريا:

إذا كان كثير من المؤرخين يتخذون من آراء الفلاسفة اليونانيين القدماء نقطة بداية للعلم؛ فما ذلك إلا لأن هؤلاء الفلاسفة قد تفوقوا على غيرهم في التساؤل والبحث عن الأسباب، صحيح أنهم لم يجدوا إجابات إلا على القليل من الأسئلة التي طرحوها، وأن كثيرا من إجاباتهم كانت قاصرة، ولكن المهم أن يُطرح السؤال، وهذا الطرح هو في ذاته الخطوة الأولى في طريق العلم.

فالقدرة على التساؤل هي التي تميز العالِم الكبير، لأن من صفات العلماء والفلاسفة عدم وقوعهم في شَرَك الرتابة، ذلك الشَرَك الذي يجعل الأشياء مألوفة، فلا تحتاج إلى البحث والتدقيق ومراجعة الفكر حولها.

فلن يسأل الإنسان العادي: لماذا السماء زرقاء؟ – مثلا؛ لأنه منذ مولده ألِف زرقة السماء، فلا تثيره مثل هذه الملاحظة (العابرة)!

لكن منْ سيسأل هو الفيلسوف أو العالِم؛ يقول دكتور مصطفى محمود:

العالِم العظيم والمكتشف العبقري هو وحده الذي يستطيع أن يمزق أستار هذه الألفة، ويأخذ بيدنا إلى حقيقة جديدة.

وهنا نطوف مع ثلاثة نماذج من أسئلة طُرحت، ففتحت أبواب واسعة في العلوم..

البداية مع أينشتاين

العالِم ألبرت أينشتاين (1879-1955) بدأت إبداعاته العلمية التي قادت إلى النظرية النسبية بسؤال عن ماهيّة الضوء.

يشرح هذه التساؤلات ماكس فرتهيمر(1880-1943م) – هو أحد المؤسسين الرئيسيين لنظرية الجشطلت Gestalt theory – قائلا:

” في البداية بزغت في ذهن أينشتاين مجموعة من الأسئلة مثل:

ماذا يحدث إذا جرى أحد الأشخاص وراء شعاع من الضوء؟

وماذا يحدث إذا ركب أحدهم شعاعا؟

هب أن شخصا جرى وراء شعاع من الضوء أثناء مساره فهل ستقل سرعة الضوء بالنسبة لهذا الشخص؟

وإذا كان هذا الشخص سيجري بسرعة كبيرة كافية، فهل يكف هذا الشعاع عن الحركة كلية؟ ( أي يصل إلى حالة من السكون المطلق؟ )”.

ثم تتابعت التساؤلات التي قادت أينشتاين إلى نظريته النسبية.

فالسؤال البسيط هو طرف الخيط الذي قاد إلى عدة أسئلة متلاحقة، ويشهد ليوبولد إنفلد (1898 – 1968م)- الفيزيائي البولندي الذي كان متعاونا مع أينشتاين في جامعة برنستون(1936-1938)- على ما كان  يتسم به أينشتاين من قدرة عظيمة على التساؤل، فيقول:

“مذ كان أينشتاين في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره (هذا ما قاله لي في مناسبات عديدة) كان يطيل النظر في هذه المسألة: ما الذي سيحدث لو أن شخصاً ما حاول الإمساك بشعاع من الضوء؟

لقد فكر في هذه المسألة ذاتها سنوات طويلة فانتهى إلى نظرية النسبية”.

يعلّق صاحب كتاب الإبداع في الفن والعلم على هذه القصة قائلا:

“ونحن نرى في هذا المثال بعضاً من السمات الهامة لعبقرية أينشتاين. وأول هذه السمات وأهمها القدرة على التساؤل”.

وهذا ليس غريبا على أينشتاين، أليس هو القائل :

“الشيء المهم هو عدم التوقف عن السؤال، الفضول له سببه الخاص”؟!

طول الساحل

هندسة الكسيريات أو الفركتلات  Fractal جاءت من عمل العالم بونوا ماندلبروتBenoit Mandelbrot (1924 – 2010) على استقصاء التكرار الذاتي، وذلك للإجابة عن سؤال بسيط :

كم يبلغ طول شواطئ بريطانيا؟

هذا السؤال السهل الذي صنع بما عرف بمفارقة خط الساحل Coastline paradox

(تلك الملاحظة المتناقضة التي يكون فيها ساحل اليابسة ليس له طول محدد واضح)!

فقد “استندت أعمال ماندلبروت إلى زعم مفاده أن الأشياء الغرائبية هي من هذا العالم أيضا، إنها تحمل دلالة مهمة.

ما الذي يصنع الشاطئ؟

طرح ماندلبروت هذا السؤال في إحدى أوراقه التي شكلت نقطة تحول في تفكيره عن سؤال من نوع :” كم يبلغ طول شواطئ بريطانيا؟”

هذه التساؤلات قادته إلى تفكير من نوع جديد في مسألة الأبعاد نفسها، وضرورة تجاوز عدد هذه الأبعاد إلى الأبعاد التكرارية المتغيرة أو ما عُرف بعد ذلك بأبعاد كسيرية Fractional Dimensions،

(يُعرّف البعد الكسيري أنه صفةٌ لمنحني متماثل ذاتيًّا، واقع في مستوى ذي بعدين، أو لسطح متماثل ذاتيًّا واقع في الفراغ ثلاثي الأبعاد).

هذه الأبعاد تعمل على الأنماط غير المنتظمة في الطبيعة من الغيوم إلى الجبال إلى تعرجات السواحل وحتى التعرجات على أوراق الشجر وغيرها.

كل هذا من سؤال بسيط طُرح ذات يوم!

مفارقة أولبرز

واحدة من مفارقات العلم المشهورة، سميت مفارقة أولبرز Olbers’ paradox لأن الذي قدمها هو الفلكي الألماني هاينريش فيلهلم أوبلرز (1758-1840)، وكانت سؤالا بسيطا :

رغم أنه ” يوجد في الفضاء مليارات النجوم اللامعة في مليارات المجرات في كل الاتجاهات، وعلى هذا، كان من المفترض أن تكون السماء مضيئة، لكن لماذا تظل السماء مظلمة أثناء الليل؟

حاول الكثيرون الإجابة على هذا السؤال المحير من زمن طويل، من توماس ديجيس Thomas Digges عام 1550م إلى كبلر Kepler عام 1610م، إلى إدوارد هالي Edward Halley في القرن التاسع عشر، حتى جاء هنريك أولبرز Heinrich Olbers في القرن التاسع عشر.

في عصر أولبرز كان من المعروف أن الكون ثابت ولا نهائي (لم يُخلق في نقطة معينة من الوقت، وسيوجد للأبد). وبناءً على الحسابات توصل إلى أنّ كل الفضاء لابد أن يكون مضيئًا”؛ وذلك لأن عددا لا متناه من النجوم ينتج كمية لامتناهية من الإضاءة، فلانهائية الكون – كما كان سائدا آنذاك – ستعوض أبعاد النجوم الشاسعة عنا!

وهناك في الفضاء الكوني آلاف الشموس، التي تفوق شمسنا ضياء، يمكنها أن تحول الليل إلى نهار.

فافترض أولبرز أن الكون ليس شفافا بما فيه الكفاية لوصول إضاءة الشموس الأخرى إلينا، وكانت إجابة خاطئة على تساؤله!

في القرن العشرين علمنا أن الكون ليس ثابتًا، بل يتوسع، وله بداية يطلق عليها اسم الانفجار الكبير. إذن الكون يتوسع، والنجوم ومجراتها وكل شيء في الكون يبتعد عنّا، لذلك فإن النجوم المبتعدة يحدث لضوئها ما يسمى بالانزياح نحو الأحمر(تأثير دوبلر)، وكلما كانت المجرات بعيدة عنا كلما كانت سرعة ابتعادها أكبر (قانون هابل)، لذلك فإنّ الضوء القادم من تلك النجوم المبتعدة يحدث تمددا في طولها الموجي لدرجة أن يدخل في نطاق الأشعة تحت الحمراء التي لا نراها.

بكلمات أخرى، الفضاء فعلاً منير، ولكننا لا نستطيع أن نرى ذلك بأعيننا، لكن يمكننا رؤية ذلك بتلسكوبات مثل تلسكوب هابل.

فقط في الكون المبكر، كانت السماء مضيئة بضوء مرئي”.

فكان تساؤل أولبرز هو البداية للتساؤل عن بداية الكون ومصيره.

وهكذا دائما:

السؤال هو البداية !

***

المراجع

– أغروس ، روبرت وجورج ستانسيو. العلم في منظوره الجديد، ترجمة: كمال خلايلي، العدد134(الكويت: سلسلة عالم المعرفة ، فبراير 1989).

– ديتفورت ، هويمارفون .تاريخ النشوء، ترجمة: محمود كبيبو، ط1 (اللاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع،1990).

– زكريا ، فؤاد .التفكير العلمي ، العدد3 (الكويت: سلسلة عالم المعرفة ، مارس 1978).

– عكوش، آلاء حسين . لماذا؟ أنت تسأل والفيزياء تجيب، ترجمة: عبدالحفيظ العمري وياسر أبو الحسب، (كتاب إلكتروني).

– عيسى، حسن أحمد . الإبداع في الفن والعلم، العدد24(الكويت: سلسلة عالم المعرفة ، يناير 1979).

– غليك ، جيمس . نظرية الفوضى -علم اللامتوقع ، ترجمة: أحمد مغربي، ط1 (بيروت: دار الساقي، 2008).

– محمود ، مصطفى . أينشتاين والنسبية ( القاهرة : دار أخبار اليوم، 2009).

 


الكاتب: عبد الحفيظ العمري
المدقق اللغوي: رشيد لعناني