نظرية التطور (الحلقة السادسة): الدليل البيوجيوغرافي

إن المتأمل في توزيع الكائنات الحية على الأرض، سيلاحظ أن الكثير منها يحتل مجالا معينا قد يكون قارة، أو جزيرة، أو عدة منها دون غيرها. ولعل أول تفسير لهذا التوزيع هو اختلاف المتطلبات المناخية لكل نوع، لكن نظرة أقرب تكشف عن غياب كائنات عدة في مناطق كثيرة من العالم رغم تشابه ظروف هذه الأخيرة مع ظروف وسط عيش هذه الكائنات. تقدم نظرية التطور تفسيرا منطقيا لهذا التوزيع، وهكذا يصبح هذا الأخير دليلا إضافيا لنظرية السلف المشترك.

biogeography

 تعيش عدة ملايين من أنواع الكائنات الحية على الأرض، حيث يصعب تخيل مدى تنوعها، ويحتل كل نوع مسكنا (ecological niche) خاصا به. تستطيع بعض الأنواع كالبشر والكلاب والجرذان العيش في مجال واسع من البيئات المختلفة، فيما تعيش أنواع أخرى في بيئات خاصة جدا، فمثلا، يعيش أحد أنواع الفطريات بشكل حصري على الجزء الخلفي لجناح نوع وحيد من الخنافس يوجد فقط في بعض الكهوف جنوب فرنسا، كما أن يرقات ذبابة Drosophila carcinophila لا تنمو  إلا في أتلام تحت جنيحات الزوج الثالث من اللواحق الفموية لنوع من سرطان بري يوجد حصرا في بعض جزر الكاريبي.

يمكن تفسير تنوع وتوزيع الكائنات الحية في ضوء التطور، لنأخذ مثلا ذبابات فصيلة Drospphilidae المنتشرة في جزر هاواي. فإن أكثر من 500 نوع من الذباب من جنسي Drosophila  و Scaptomyza توجد فقط في هذه الجزر، وتشكل هذه الأنواع ربع أنواع هذه الأجناس في جميع أنحاء العالم، وأكثر بكثير من عدد الأنواع الموجودة في أي منطقة أخرى من  المساحة نفسها في العالم. لماذا يعيش هذا العدد الكبير من الأنواع المختلفة في جزر هاواي فقط؟

يزودنا التاريخ الجيولوجي والبيولوجي لهاواي بجواب عن هذا السؤال، فجزر هاواي تتشكل من قمم براكين وسط المحيط، ولم يسبق لها أن كانت متصلة بأية قارة، وقد تكونت نتيجة حركة صفيحة المحيط الهادي فوق “نقطة ساخنة ” تعرف صعود الصهارة من أعماق الأرض عبر القشرة الأرضية. الجزر الحديثة هي الأكثر ارتفاعا أما الأكبر عمرا فهي أقل ارتفاعا نتيجة الحث، حيث ينتهي بها الأمر بالاختفاء تحت الماء، وقد تكونت الجزيرة الأقدم، « Kure Atoll » قبل 30 مليون سنة، أما الأحدث، « Big Island »، فلا يتعدى عمرها 500.000 سنة ولا يزال فيها النشاط البركاني مستمرا.

انحدرت جميع أنواع النباتات والحيوانات الأصلية لجزر هاواي، (الأنواع الموجودة في الجزر قبل وصول البشر قبل حوالي 1200 إلى 1600 سنة)، من كائنات وجدت طريقها من القارات المحيطة والجزر الأخرى  إلى الجزر القاحلة في بداية عمرها، وتشير الدلائل ـ وخصوصا المعتمدة على دراسة الحمض النووي DNA ـ أن جميع أنواع Drosophila و Scaptomyza في جزر هاواي انحدرت من نوع واحد استوطن هذه الجزر قبل ملايين السنين.

صادف هذا الكائن ظروفا ملائمة للانتواع (Speciation) (العملية التطورية التي تنشأ بواسطتها أنواع جديدة انطلاقا من أنواع موجودة سلفا). ولقد شكلت الأنواع بشكل مستمر أسلافا لأنواع أخرى متعددة، مع احتلال مجموعات من الذباب مساكن مختلفة من حيث الارتفاع، وكمية التساقطات، والتربة، والغطاء النباتي، إضافة إلى ذلك فإن مجموعات صغيرة، وفي بعض الحالات أنثى ملقحة واحدة، تطير أو تحمل بشكل دوري إلى جزر أخرى حيث تعطي أنواعا جديدة، الكثير من هذه الأنواع الجديدة كانت قادرة على احتلال مساكن فارغة كانت ستحتلها أنواع أخرى لو كانت في القارة. مثلا، فالكثير من أنواع الذباب تضع بيضها على أوراق النباتات المتحللة على الأرض، وهو مسكن تحتله الحشرات وكائنات أخرى على القارة، لكنه كان فارغا في جزر هاواي.

تعتبر الثدييات التي عاشت في الأمريكيتين الشمالية والجنوبية مثالا جيدا آخر لكيفية تفسير التطور لتوزيع الأنواع، وكانت هاتان القارتان متصلتين باعتبارهما جزءا من يابسة أكبر خلال وقت مبكر من تطور الثدييات، وقد أدى تجزؤ هذه الكتلة من اليابسة إلى افتراق القارتين، وبعدها تطورت ثدييات كل واحدة في اتجاهات مختلفة. واعتمادا على السجل الأحفوري، تضم الثدييات التي تطورت في أمريكا الجنوبية مجموعات شبيهة بالمجموعات الحديثة، كآكلة النمل (anteaters)، والكسلان (sloths)، والأبوسوم (opssums) والمدرع (Armadillo). أما في أمريكا الشمالية، فإننا نجد العديد من الأنواع التي تطورت ومن بينها: الخيول والخفافيش والذئاب والقطط المسيفة الأسنان، وقبل 3 ملايين سنة عادت القارتان للارتباط من جديد نتيجة تكتونية الصفائح، وهذا ما مكن ثدييات أمريكا الجنوبية، كالمدرع والشياهم (porcupines) والأبوسوم من الهجرة شمالا، وخلال ذلك عبرت العديد من الأنواع كالأيل والراكون (raccoons) وأسود الجبل والدببة والكلاب المضيق إلى الجنوب.

مقارنة مع الأمريكيتين، تتوفر إفريقيا على فونة خاصة بها، رغم أنها تتواجد على خطوط العرض نفسها مقارنة مع أمريكا الجنوبية،      حيث تضم هذه القارة حيوانات مثل، وحيد القرن، وفرس النهر، والأسود، والضباع، والزرافات، والحمار الوحشي، والليمور، وقردة الشامبانزي والغوريلا، ولا يعود هذا التوزيع إلى مدى ملاءمة الظروف السائدة في هذه البيئات المختلفة، فليس هناك سبب يدعو للاعتقاد أن حيوانات أمريكا ليست مؤهلة للعيش في إفريقيا، أو أن حيوانات إفريقيا ليست مؤهلة للعيش في أمريكا، كما أن جزر هاواي ليست أكثر ملاءمة لعيش أنواع من ذبابة الخل من الجزر الأخرى في المحيط الهادي، وليست مضيافة أقل من باقي مناطق العالم للعديد من أنواع الكائنات غير الموجودة بها، ورغم أن جزر هاواي ليست موطنا أصليا لأي من الثدييات الكبيرة، إلا أن الخنازير والماعز البري تكاثرت فيها منذ إدخالها من طرف الإنسان، هذا الغياب التام للعديد من أنواع الكائنات في بيئات ملائمة تعيش فيها تشكيلة أخرى من الأنواع لا يمكن تفسيره إلا بنظرية التطور، والتي تنص على أن الأنواع تستطيع التواجد والتطور فقط في المناطق الجغرافية التي استوطنها أسلافها.

المصادر: nap  ،  britannica