مفاهيم “علمية” مغلوطة واسعة الانتشار!، الجزء الأول : الكشف المبكر عن السرطان ينقذ حياة المرضى في كل أنواع السرطان!

نرحب بكم في هذه السلسلة الجديدة بعنوان ”مفاهيم “علمية” مغلوطة واسعة الانتشار!”، والتي أعدها البروفيسور مصطفى بهران  المتخصص في علم الفيزياء النووية والجسيمية، والحاصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية.

 

الحلقة الأولى: الكشف المبكر عن السرطان ينقذ حياة المرضى في كل أنواع السرطان!

Illustration by Ryan Snook

Illustration by Ryan Snook

ماهو برنامج الكشف المبكر عن السرطان؟:
ببساطة هو أن يقوم الناس الأصحاء من فئات عمرية معينة بشكل منتظم (كل فترة زمنية معينه) بالخضوع لإجراءات تشخيصية يمكن من خلالها معرفة إذا ما كان السرطان قد أصابهم دون أن يعرفوا (أي قبل أن تظهر أية أعراض مرضية)، ومثال على ذلك هو خضوع النساء للفحص الطبي الدوري لسرطان الثدي وخاصة الماموجرام (الماموجرام هو فحص الثدي باستخدام أشعة إكس لمعرفة وجود ورم حتى في بداياته بنصف قطر 2 مِم أو أكبر)، أو خضوع الرجال في النصف الثاني من العمر لفحص سرطان البروستات.

شرح الموضوع:
في 1997 بدأ أطباء كوريا الجنوبية في جنوب غرب البلاد تقديم خدمة الكشف المبكر عن سرطان الغدة الدرقية بالتقنية “فوق الصوتية” (وهي التقنية واسعة الانتشار والنجاح في التشخيص لكثير من أمراض الجهازين الهضمي والتناسلي بالذات، وهي تقنية معروفة لدى أغلب النساء إذ تستخدم لرؤية وضع الجنين في بطن أمة وتحديد جنسه، وتسمى عند عامة الناس في اليمن بالـ “الفحص التلفزيوني”)، وانتشر هذا الأمر في كوريا الجنوبية حتى غطى البلاد كلها تحت غطاء البرنامج الوطني للكشف المبكر عن السرطان، حيث وصل مستوى إنتشار الكشف المبكر في 2011 إلى 70 حالة بالمقارنة مع ثلاث حالات فقط في كل مئة الف نسمة في 1999، وترتب على ذلك أن ثلثي الذين شُخَّصوا أزيلت غددهم الدرقية جراحياً ووضعوا تحت برنامج علاجي على مدى حياتهم، وكلا الإجرائين (الجراحة والعلاج) لهما أخطارهما بكل تأكيد! فكما سيأتي لاحقاً في هذا المنشور من الممكن بل ربما من المفضل ترك السرطان من النوع بطيء الانتشار بدون تدخل!

كان من المتوقع أن برنامجاً وطنياً شاملاً ومكلفاً للكشف المبكر عن سرطان الغدة الدرقية كهذا سيسهم جوهرياً في الحفاظ على حياة الناس وتقليل نسبة الوفيات بسبب سرطان الغدة الدرقية، ولكنه لم يفعل إطلاقاً، إذ أنه بالرغم من أن سرطان الغدة الدرقية هو اليوم الأكثر تشخيصا في كوريا إلا أن معدل الوفيات بعد تطبيقة وطنياً لم يتغير على الإطلاق وما زال في حدود حالة في كل مئة الف نسمة، و عندما أدرك بعض الأطباء هذه الحقيقة واقترحوا عدم إعطاء الكشف المبكر هذه الأهمية واستبداله ببرامج أخرى أكثر أهمية مثل تحديد طبيعة وسرعة انتشار السرطان وقت الكشف عنه، لم يقبل اقتراحهم، بل أن جمعية الغدة الدرقية الكورية عارضت ذلك قائلة أن الكشف المبكر عن السرطان وعلاجه حقان من حقوق الإنسان! وهكذا انتشر مفهوم أن الكشف المبكر عن سرطان الغدة الدرقية ينقذ أرواح المرضي ومازال رغم ثبوت عدم صحته، وهكذا انتشر الأمر على نطاق كل أنواع السرطان وكأنه حقيقة مسلم بها، بل أن الاستراتيجيات الوطنية لمكافحة السرطان تنص عليه باعتباره من المسلمات، في حين أن هذا الأمر صحيح لبعض أنواع السرطان (مثل سرطانات الرئة والقولون والرحم، وهنا يكون الكشف المبكر مهم لفئات محددة فقط، أي ذات العلاقة ضمن تقييم عوامل اخرى تجعل الاحتمال أكبر)، ويكون الكشف المبكر غير صحيح لأنواع أخرى (مثل سرطانات الغدة الدرقية والبروستات والثدي).

الحقيقة أن لا غرابة في درجة اعتقاد الناس (إعتقاد أعمى) بما يمكن تصنيفه وكأنه أساطير بما في ذلك العلميين منهم. يقول نيكولاس سبيتزر وهو مدير معهد كافالي للعقل والدماغ بجامعة بكاليفورنيا بسنتياجو أن “العلماء مصدقون أنهم موضوعيون إلى درجة أنهم لا يمكن أن يعتقدوا بماهو فولكلوري كالأساطير، ولكن الحقيقية أنهم يفعلون!” ويساهم الإعلام مساهمة رئيسة في انتشار مثل هذه المفاهيم الخاطئة لأن الحقائق لا تهم الإعلام في كثير من الأحيان بقدر ما تهمه الإثارة ومصالحه وربحيته ولذلك لا تهتم المؤسسات الإعلامية في الغالب بالحقيقة العلمية إذا ما انتشرت خرافة أو أسطورة على نطاق واسع.

هذا الاعتقاد الأسطوري ينشأ مبتدأً بحقيقة صغيرة تعمم فتصبح مسلمة كبيرة ويزدهر هذا الاعتقاد على خلفية قلق الإنسان على حياته وخوفه من الموت، فقد نشأ الاعتقاد في أوائل القرن العشرين عندما تعرف الأطباء على حقيقة أن بدأ العلاج بمجرد اكتشاف السرطان أفضل من تأخير العلاج (هذا ليس صحيحاً بالضرورة لكل حالات السرطان كم نعرف الآن)، فكانت القفزة المنطقية اللاحقة تقول “يا حبذا لو أمكن الكشف عن السرطان مبكراً في أول لحظات حدوثه في الجسم” وبالتالي من المفيد تنفيذ برنامج للكشف المبكر عن السرطان مما سيتيح ذلك، فتحول الأمر إلى مسلمٍ غير صحيح بأن برنامج الكشف المبكر ينقذ الأرواح، بل أن جميعنا يعتقد بأنه كلما اكتشفنا السرطان في وقت مبكّر كلما كانت حظوظنا في الشفاء أفضل! ولكن هذا الاعتقاد الأعمى له أضرار ليست هينة فمن جهة يجعل الناس يقومون بإجراءات طبية تشخيصية أو علاجية لا حاجة لهم بها تكلفهم مالاً ولها أضرار كبيرة غالباً، ومن جهة أخرى يعطل المعرفة العلمية ويعرقل البحث العلمي وتوجهاته الموضوعية نحو البحث عن حلول بديلة لهذا الموضوع مثل وعلى وجه التحديد هل هذا السرطان أو ذاك سريع الانتشار أو بطيء وما هي معدلات انتشاره وكيف يمكن التعامل مع السرطانات السريعة وكيف يمكن التعامل مع تلك البطيئة، وهل من الأفضل ترك البطيئة دون تدخلات جراحية مؤلمة وعقارية سامة مقرفة وإشعاعية أشد قرفاً!

يقول أنثوني ميلر الذي أشرف على دراسة وطنية كندية عن سرطان الثدي استمرت 25 سنة شملت حوالي تسعين الف إمرأة ما بين أربعين وخمسين سنة عمراً، يقول “يتخيل الناس أن مجرد الكشف المبكر سيكون مفيداً، وهذا ليس صحيحا على الإطلاق”، وذلك لأن بعض السرطانات العدوانية ستقتل بغض النظر عن متى يتم الكشف عنها، وبعضها بطيئ لا ضرورة فيها للتدخل الجراحي مثلاً بإزالة الغدة الدرقية أو الثدي أو البروستات، فضلاً عن أن إجراءات الكشف المبكر لها أضرار جانبية لا حاجة لنا بها!

تجربة شخصية:
توفت والدتي وحبيبتي ومربيتي السيدة القعطبية الجليلة والأم العظيمة ملك عبدالوهاب الخطيب بعد صراعٍ مع سرطان الثدي رغم أننا اكتشفناه مبكراً ولم يكن قد انتشر إطلاقاً ورغم محاولات علاجها في الأردن وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية على التوالي، فقد كان معدل تطور هذا الخبيث سريعاً، وقضت أيامها ما بين لحظة اكتشافه ولحظة وفاتها بنوعية حياة سيئة بين الأطباء والمستشفيات وغرف العمليات والعقارات والحقن والألم والوجع، ولو كنت أعلم ما أعلمه الآن لتركتها تعيش كل ذلك الوقت بدون تدخل وكانت أيامها ستكون أفضل حالاً وأقل ألماً وبين أولادها وأحفادها وأقاربها وجيرانها في بيتها وبلدها، ومن يدري ربما كانت قضت عمراً اكبر بيننا بإرادة الله عز وجل!

ملخص الموضوع:

الكشف المبكر عن السرطان (الذي يُخضع الأصحاء أنفسهم له) ليس ضروريا إلا في حالات الفئات المعرضة لأنواع محددة من السرطان التي ثبت أن الكشف المبكر عنها كان مفيدا في كفائة علاجها مثل الفئات المعرضة لسرطان الرئة مثلا (المدخنون مثلاً)، وفي حالات السرطانات التي ثبت فيها العكس يكون الكشف المبكر ليس مفيدا إطلاقاً بل قد يقود إلى تورط الأطباء في إجراء عمليات جراحية و/أو خضوع المريض لعقار كيماوي أو إشعاعي شديد القرف يقتل ما تبقى من حياة في الإنسان، ومع هذا فإن البديل الصحيح للكشف المبكر بالنسبة للأصحاء الذين ليسوا معرضين لسرطانات مثل الرئة والقولون والرحم هو القيام بفحص ومعرفة مدى عدوانية المرض عندما يكتشفون أنهم مصابون به فإذا لم يكن سريع الانتشار يفضّل أن يترك جانبا، وفي كل الأحوال لكل حالة قرارها وبرنامج علاجها من عدمه بحسب نوع السرطان وشدة انتشاره ورغبة المريض والعوامل النفسية والحياتية الأخرى، ولا توجد ضرورة بكل تأكيد لخضوع الناس لكشف مبكّر إذا لم تكن هناك أسباب أخرى ترشح الفرد للإصابة بالسرطان فتفرض هذا الكشف المبكر!

ينشغل الزملاء ذوي الاختصاص بمرض السرطان كثيراً بعملهم الذي نقدره ولكن عليهم وزر البحث والتقصي في هذا الشأن والتعرف على ما هو متاح من بيانات (data)، والعمل بها ففي نهاية المطاف لا يكفي الاعتماد على ما تعلّموه وعلى خبرتهم الشخصية فقط، بل على الدراسات الحديثة في هذا الشأن من أجل العمل على زيادة معدلات النجاة من هذا المرض العضال!

هذا ما جاء في مجلة نيتشر مع تصرف وإضافات وشروح من عندي، وطيب الله أوقاتكن وأوقاتكم وجنبكن وجنبكم كل مكروه.

المقال الأصلي على مجلة نايتشر : آساطيرُ علومٍ تأبى الموت!، نايشتر 2015

مصدر الصورة: دروية نايتشر 2011